الكتلة الكبرى تصطدم بإرث التوافق
وليد فرحان /
حتى بعد فوزهم الكبير بحسب النتائج الأولية للانتخابات، تصطدم طموحات التيار الصدري بترشيح رئيس وزراء “قح” بإرث التوافقية الذي بني عليه النظام السياسي وبمشروع الحصص الذي تشكلت بموجبه أغلب الحكومات، وبتداخل قوى إقليمية ودولية اعتادت استغلال ثغرة الخلافات المحلية للتدخل في هذه العملية العسيرة.
إعلان الكتلة الصدرية المضي بمشروع الأغلبية البرلمانية، دفع القوى الشيعية بقيادة ائتلاف دولة القانون إلى الإعلان عن تصديها للمشروع الصدري من خلال ما عرف بـ “الإطار التنسيقي”، الذي لم يقر لغاية الآن بالنتائج، وقدم الكثير من الطعون الى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات.
كان الصدريون جزءاً من مشهد التوافقية الذي انتهى بحكومات ضعيفة ومرتهنة لحسابات التوافق، وهو المشهد الذي حسم نتائج انتخابات عام 2010 التي فاز بها ائتلاف إياد علاوي لصالح التوافقية، لكنهم يراهنون هذه المرة على تشكيل حكومة تنبذ التوافق وتسعى لترسيخ مبدأ المعارضة.
فيتو شيعي
مطالبة الصدريين – قبل الانتخابات- برئيس وزراء صدري “قح” أثارت حفيظة الغرماء الذين تعودوا قسمة “المنافع”، وبحسب متابعين، لا تتخيّل أغلب القوى وجود حكومة غير خاضعة لرغباتها، أو بصورة أوضح؛ لا تقبل بانفراد التيار الصدري بادارة الدولة.
البيت الشيعي جرّب مع ائتلاف دولة القانون سلطة شبه مطلقة انتهت بخصام مع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، ولاسيما في الدورة الثانية التي فتح فيها -كما يتهمه خصومه- الباب لرجال الائتلاف للسيطرة على غالبية المناصب الحساسة في الدولة، وهيمن فيها على قائمة التعيينات الأرفع، تلك الدورة التي انتهت بـ”فيتو” شيعي يتقدّمه التيار الصدري على تولي المالكي الوزارة مرة أخرى، وبعزل قياداته بصورة تدريجية من هيمنتها المطلقة على مفاصل الدولة، حتى أن الكتل الشيعية اشترطت على حيدر العبادي –رئيس الوزراء البديل عن المالكي- الاستقالة من حزب الدعوة مقابل إطلاق يده ومنحه الدعم الكافي لإجراء الإصلاحات، لكنَّه رفض وخسر معركة الاحتفاظ برئاسة الوزراء لصالح عادل عبد المهدي.
الصعود الصدري
خلال الدورة البرلمانية المنصرمة بدأ الصدريون يشكلون قطباً بارزاً ومؤثراً في شكل الحكومة العراقية، وتزايدت مساحة تأثيرهم في هذه العملية مقابل تراجع لأدوار أطراف البيت الشيعي الأخرى، التي باتت تشكل تحالفات لمواجهة المد الصدري، تلك النتائج منحت الصدريين دور الشريك في اختيار حكومة عبد المهدي، لكنهم لم يتقبلوا انحياز عبد المهدي الى الطرف الآخر، فكان دورهم فاعلاً في ترشيح الكاظمي بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي نتيجة لتداعيات تظاهرات تشرين.
لكن هل البلاد مهيَّأة لحكومة أغلبية وذهاب البقية الى المعارضة حسب دعوات الصدريين؟ – رغم تأكيد الصدريين على تحمّل أعباء الفشل – في حال تشدّدت الكتل في رفض رئيس الوزراء “القح” وفضّلت رئيساً مستقلاً للوزراء تقف خلفه وتسنده.
شارع غاضب
الصدريون لم يظهروا ما يشي في التراجع عن مشروعهم، بتشكيل الكتلة الكبرى بعيدا عن التوافقية ولكنهم يدركون أكثر من غيرهم أن الشارع الشيعي أكثر الشوارع الناقمة على السياسيين، وأن الفشل هذه المرة لا يرحم أحداً، وأن البلاد مهيَّأة لتظاهرات أخرى ما دامت الأمور لم تتغيّر كثيراً عن 2018. حميد الغزي، الأمين العام لمجلس الوزراء، أشار في أحاديث صحفية الى صعوبة تشكيل الحكومة بدون اللجوء الى التوافق! في مؤشرٍ على صعوبة المضي بتشكيل حكومة لا تخضع لتوافقات وتُمرَّر بتصويت برلماني قوامُهُ الكتل المتوافقة على تشكيل الحكومة.
يعرف الصدريون أنَّ القوى الشيعية الأخرى التي تتمثّل بدولة القانون والفتح، وبقية الأحزاب المنافسة، يمكن أن تركن الى الصيغة التوافقية، ففي حال لم يلبِ الصدر طموح الأكراد والسنّة في حكومة ذات تمثيل حقيقي، يستطيع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي حينذاك مدّ بساطه. يستند المالكي وحلفاؤه على تفسير المحكمة الاتحادية للكتلة الأكبر في المادة الدستورية 76 التي تتيح لمن يأتلف داخل قبة البرلمان تشكيل الكتلة الأكبر التي تتولى تشكيل الحكومة بغض النظر عمن فاز في السباق الأولي، فإذا كان الصدر لا يرغب بهذا السياق الكلاسيكي فهناك من يستعد لملء الفراغ وشحذ الحل القديم بمزيد من سياقات التوافق.
وفي عرف السياسة بعد 2003، تشكّلت حكومات قائمة على الأضلاع الثلاثة؛ الشيعة والسنّة والأكراد، لكنَّها -بحسب مراقبين- أوصلت البلاد الى مفترق طرق وأنتجت سياقات غير دستورية، لم توقفها عن المضي في تحقيق أهدافها أيُّ كوابح، راكبةً قطار التوافقية المتداعي!
لكن ألم يحن لتلك الكتل أن تتخلَّى عن نهجها القديم؟ السؤال أثير بعد تظاهرات تشرين، وكان بادياً للعيان أن حظوظ القوى التقليدية تكاد تتراجع في ظل غضب عارم من سياساتها السابقة. إن فوز الصدريين بتشكيل الحكومة يعني في أحد وجوهه ترميم العلاقة مع الجمهور أو تحمّل مزيد من الخسارات، في كلتا الحالتين تخشى القوى المنافسة للصدريين نجاحهم الذي يزيد عزلة بقية القوى، أما فشل الصدريين في تغيير الأداء الحكومي فسوف يلقي بالمزيد من العبء على التجربة “السياسية” في العراق بعد 2003.
إشارة السيد مقتدى الصدر في إحدى تغريداته الى السلام الذي كانت تعيشه أفغانستان تحت الحكم العلماني وظلم “الشيعة” هناك في ظل الحكم الإسلامي توحي -بحسب محللين- الى شكل الحكم الجديد الذي يرغب به الصدر إذا ما جلب الاستقرار للبلاد، ولاسيما مع انفتاح دبلوماسي كبير عاشته حكومة الكاظمي.
بيضة أخرى في القبّان
في المقابل، تصرّ قوى تشرين على نهج جديد، وتقود “حركة امتداد”، بعد حصولها على عدد من المقاعد وإقناعها لمجموعة من المستقلين الفائزين بالانضمام إليها، حراكاً لتشكيل جبهة معارضة قوية داخل البرلمان. رئيس الحركة علاء الركابي التقى بجهات تشرينية لم تشترك في الانتخابات لعقد مؤتمر يؤسّس لتوجهات تشرين المقبلة؛ من داخل البرلمان وخارجه، كما التقى برئيس حركة الجيل الجديد الكردية شاسوار عبد الواحد لصياغة خطوات مشتركة تتعدى الحدود المعروفة، في إشارات تدل على أنّ القوى التقليدية حتى لو لم تتأثر حجومها كثيراً في الانتخابات – باستثناء تحالف الفتح – لكنها ستواجه صعوبات في تمرير ما تريد وفق الأعراف القديمة.
الإطار التنسيقي
تعمل القوى الرافضة لنتائج الانتخابات الأولية، التي انضوت تحت مسمى “الإطار التنسيقي”، باتجاهين، فهي من جهة تصعد الشارع للضغط على المفوضية لدفعها الى الفرز والعد اليدويين، وتلوح من جهة أخرى بقدرتها على تشكيل الكتلة الأكبر، وفي هذا الصدد يرسل الإطار التنسيقي رسائل الى الطرف الصدري مفادها أنه قادر على حشد المزيد من القوى معه، وقد أعلن نائب من دولة القانون أن عدد نواب “الإطار التنسيقي” وصل الى 93 نائباً.
على أية حال، ليس بوسع أي من الطرفين تجاهل حقيقة أن الصدريين حققوا الفوز في الانتخابات حسب النتائج الأولية، وأن قصة تشكيل الكتلة الكبرى تظل رهينة حسابات أخرى أهم من حسابات عدد المقاعد البرلمانية.