بسماية في العمق!

1٬809

#خليك_بالبيت

إياد عطية الخالدي /

حتى لو كان مشروع بسماية الجديدة مجرد مشروع لحل أزمة السكن في فكر من خطط اليه لكن بسماية في العمق، وفي نبض يومياتها، إنما تمثل نموذجا لمشاريع بناء الإنسان، فعندما يحصل الناس على الخدمات العامة وبنى تحتية ممتازة يشعرون بإنسانيتهم وتتعزز في نفوسهم قيم الانتماء إلى الوطن وينفضون عن فكرهم واعتقادتهم الكثير من غبار السلوكيات الغريبة البالية التي يرفضها العقل، ولا تنسجم مع تطلعات بناء الدولة والإنسان.. والقصة تروى…
في شقة حديثة تشتمل على الخدمات الاساسية (كهرباء مستمر ومياه صالحة للشرب ومجارٍ ونظام أمني يمنح الأمان على مدار اليوم وخدمات بلدية) بإحدى العمارات السكنية في مدينة بسماية الجديدة وجدت عائلة أبي تحسين حياة أخرى غيّرت الكثير من المفاهيم والسلوكيات التي فرضها عليهم واقع المدن المهمشة.
وبسماية الجديدة مدينة تقع على مسافة ١٢ كم جنوب شرق العاصمة بغداد، وتمثّل أكبر المشاريع الاسكانية في العراق الذي تنفذه شركة هانوا الكورية مع شركات مساندة عراقية على مساحة عشرين كم من المقرّر أن تبني الشركة نحو مائة الف وحدة سكنية تستوعب نحو ستمائة ألف شخص. ويشتمل المشروع الذي اقترب من الإنجاز على شبكة من البنى التحتية من كهرباء وماء وشوارع رئيسة، إضافة إلى المرافق التعليمية والدينية والترفيهية والتجارية كما يشتمل المشروع على محطات معالجة المياه ومعالجة الصرف الصحي، وبذلك ينتهي إلى مدينة بسماية الجديدة، وهي مدينة متميزة بالمقارنة مع مدن العراق بما فيها العاصمة بغداد.
عقود من المعاناة
انتقلت عائلة ابو تحسين الرجل الخمسيني الذي يبدو كشيخ هرم احدودب بفعل عقود من المعاناة تركت آثارها على وجهه وجسمه المنهك النحيل من أحد أحياء (الصفيح) حيث تحيط بسكنه النفايات وتنبعث الروائح الكريهة من الاوحال والبرك ذات اللون الاخضر الداكن نتيجة تجمع المياه الآسنة.
أمضى ابو تحسين وزوجته ثلاثة عقود في مسكنهم رابضين مع أطفالهم الخمسة تحت سقوف الفقر يكافحون لتوفير لقمة الخبز لهم.
لم يتح الحرمان لأبي تحسين تعليم أولاده باستثناء ابنه الاوسط الذي أكمل دراسته وتخرّج من معهد التمريض، وهو الذي غيّر مسار العائلة ونقلها لعالمها الجديد.
يقر أبو تحسين بأنَّه لم يكن بوسع عائلته أن تتخلّى عن السلوكيات المعتادة في الحي القديم الذي على الرغم من تحسن دخل العديد من سكانه الا أنّه ظلّ بائسا، حيث ينتشر العنف والمشكلات كيوميات اعتيادية للحي القديم.
ويستذكر أبو تحسين الذي انتقلت عائلته إلى بسماية قبل ثلاث سنوات أن أولاده ارتكبوا الاخطاء، ولم يندمجوا مع النظام الذي يطبع إيقاع الحياة في بسماية، ولكنّنا كنّا مصرين على أن نكون بمستوى سكان الحين، حتى ولدنا الاصغر الذي انتظم في المدرسة أصبح كباقي الاولاد الذين في المدارس والتحقوا بحملات التنظيف وصرنا نشعر أن بسماية بكل عماراتها وساحاتها وشوارعها إنما هي مدينتنا.
ويستذكر ابو تحسين كيف أنّه في إحدى المرات كان يرمي أعقاب السكائر في غير محلها، فلمحه أحد الجيران الذين يحبهم وتحدّث له بلطف، ومن يومها أدرك أبو تحسين أن عليه أن يعتاد التنظيم.
أزمة أقضت مضاجع العراقيين
يأتي مشروع بسماية الجديدة كواحد من أفضل الحلول لأزمة السكن في العراق، تلك الأزمة التي أقضت مضاجع العراقيين، ودفعتهم للسكن في الاحياء المهمشة، إذ يعيش سكانها خارج التأريخ، وحتى الموظفون ممن يستأجرون منازل التهمت نصف مرتباتهم وأكثر، ودفعتهم للتنازل عن الكثير من المتطلبات الاساسية للحياة مقابل سقف يحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء القارص.
وعلى مسافة 28 كم كان يعيش مسلم العتابي في حي النهروان، وهو أحد الاحياء التي تعاني من نقص فادح في الخدمات، حيث الشوارع الضيقة وأزمات الماء والكهرباء والبطالة تخيم على واقع هذا الحي وتنعكس على سلوك المجتمع، إذ تنتشر الجريمة والعنف والمشكلات الاجتماعية في مجتمع تغلب على سكانه النزعة العشائرية، لتكون النتيجة سكانا يعانون من مختلف الامراض العضوية والنفسية، وكلها نتائج للواقع الاقتصادي ولسوء الخدمات التي قد تنفجر إلى عنـف يعاني منه الجميع.
يتحدث العتابي الذي يمتلك محلا لبيع ونصب كاميرات المراقبة، بفخر كبير عن مدينته الجديدة بسماية، ويعتقد أن أفضل ما حصل عليه في بسماية هو الشعور بالامن والطمأنينة، لكن الأهم من كل ذلك أنك هنا تشعر بإنسانيتك “تحس نفسك بشر من صدك”.
تغيرت الكثير من القناعات والأفكار التي رافقتني، فهنا رميت خلفي الكثير من الأفكار الخاطئة.
أبعاد نفسية
وتعتقد المدرسة في ثانوية في بسماية زينة السندالي التي كانت من بين العائلات التي سكنت مبكرا في المدينة، لم يتغير سلوك وتصرفات الناس القادمين من المناطق الشعبية، الذين اندمجوا بسرعة مع مجتمع بسماية المنحدر من مختلف مناطق العراق، بل حتى نحن القادمين من مناطق وسط العاصمة وأحيائها العريقة، لقد تغيرت حياتنا إيجابيا بشكل ملحوظ، انعكس حتى على العلاقات الزوجية بشكل كبير وليس بوسع أحد أن يتخيله، لهذا لا أرى عجبا أن تتغير عادات وسلوك الناس هنا وهم مشبعون بالطاقة الايجابية التي يستمدونها من توفر الخدمات والاستقرار والامن، فكل ما حولك هنا يمدك بطاقة إيجابية، ويدفعك إلى الشعور بالراحة والتفكير البنّاء.
تستذكر المدرسة حياتها في حيها السابق وفي بيتها الذي كانت تستأجره، تشعر كم كان القدر يظلمها ويظلم كثير من الناس، حينما يذهب الجزء الاكبر من راتبها إلى المؤجر الذي يدقق في بيته المتهالك، ويشعرنا كأنه صاحب الفضل علينا، ناهيك عن الشوارع المزدحمة، والضوضاء، ومشكلات الكهرباء، وانقطع سلك المولدة الذي يتشابك مع الاسلاك الاخرى، مشكلا منظرا تشمئز منه النفوس، واذ اعتاد الناس على رمي النفايات ، وكلها امور تنتزع منك إنسانيتك، وتسلب همتك، وتجعلك تعيش على أعصابك.
والسندالي سيدة نجحت باقناع العديد من العائلات للقدوم إلى بسماية والعيش فيها، وتقول مدرسة الاحياء، إن المدارس في بسماية لا يمكن مقارنتها بأي مدرسة في بغداد سواء أكانت حكومية ام أهلية، فهنا شيدت مدارس كبيرة من ثلاث طبقات، وتتميز بحدائقها الواسعة، وساحاتها الكبيرة، ومرافقها الصحية، وتشتمل على مختبرات واسعة وقاعات للرسم كماتشتمل على مسارح وملاعب ، كل هذا يتيح أجواء صحية للتعليم، حيث يذهب الاطفال إلى مدارسهم بنشاط وحماس كبيرين.
وأشارت إلى أن أطفالها، ما عادوا يتحملون زياراتنا لبعض أقاربنا في بغداد، فقد اعتادوا هنا على أجواء مدينة بسماية، كما اعتادوا على الخدمات الجيدة التي أثرت إيجابا عليهم وباتوا لا يتحملون، مثلا، رؤية النفايات المتراكمة هنا وهناك في بغداد، ولهذا سرعان ما يطالبونني بالعودة إلى المنزل.
وتؤكد زينة السندالي : بسماية ضمت موظفين ومحدودي الدخل وأناساً من جميع مناطق العراق، لكنهم جميعا اندمجوا في حياة كريمة بفعل توفر الخدمات، وهناك من يمتلك منهم منازل في بغداد لكنه يأتي إلى بسماية، ويعيش أجواؤها وفي النهاية يفضلها عن حياة بغداد.
الرمي والكوامة
وعلى العكس مما يعتقد فإنّ السكان المنحدرين من المناطق الشعبية أكثر توقا للعيش بحرية، وهم سعداء لأنّهم ملوا الوصاية التي يفرضها المجتمع على لباسهم وتصرفاتهم، لهذا نحن سعداء يقول العتابي بحياتنا الجديدة في بسماية.
في هذا الصيف وبينما عاش أهالي بغداد معاناة قاسية بسبب الانقطاعات المستمرة للتيار الكهربائي الذي استغل أبشع استغلال من أصحاب المولدات، فإن سكان بسماية كان يتنعمون بأجواء مكيّفة بالنظر لتكامل الخدمات في هذا المشروع الاسكاني الكبير.
ويؤكد مسلم العتابي أنّ الناس هنا تعيش براحة حيث تتوفر الخدمات والمهم الخلاص من المشكلات، “ماكو مشاكل ولا كوامة ولا رمي.”
وفي الواقع يمنح تخطيط مدينة بسماية مساحة للناس للحركة بمرونة بين العمارات وفي المتنزهات والأسواق ويشتمل المشروع على مساحات خضراء كبيرة وعلى ملاعب وملاهٍ للاطفال، ويراعي حركة السيارات في أمان ويشتمل المشروع على مركز تسويق رئيس لخدمة سكان الحي وحدائق رئيسة متصلة بشبكة الطرق يمكن الوصول إليها بسهولة حدائق صغيرة وملاعب أطفال موزّعة لخدمة الأحياء والمسجد والخدمات التعليمية والأمنية.
ويمكن أن تلمس تعد جودة البيئة السكنية مؤشراً على مستوى جودة الحياة، بفعل توافر الخدمات الأساسية.
بسماية والأحياء العشوائية
ويتساءل العديد من الاقتصاديين عن أسباب فشل الحكومات المتلاحقة في البلاد من تحويل المدن المهمشة إلى مدن حديثة، تليق بالعراقيين وترتقي بمستواهم.
وبدلا من أن تعالج الحكومات مشاكل الاحياء ذات الكثافة السكانية العالية، فإنها ساهمت بطريقة مباشرة وغير مباشرة في تمدد العشوائيات، حتى باتت بغداد تضيق بسكانها، حيث تحولت بساتينها وساحتها التي خططت لتكون حدائق ومدارس ومراكز خدمية وصحية إلى عشوائيات سكنية تقاسم الاحياء الملتصقة بها على الخدمات البائسة التي تحصل عليها عاصمة البلاد.
فقد أزيلت الاشجار والنباتات من أحياء بغداد وتركت لتلتصق بالمدينة وتخنقها، حتى نمت عشوائية وأكثر بمحاذاة الاحياء الراقية في بغداد التي عرفت بجودة الخدمات.
وفي مدينة الصدر التي يحتشد فيها نحو مليوني نسمة، انتهت قصة مشروع 10 ×10 الاسكاني، الذي كان يهدف إلى إيجاد حل للكثافة السكانية ويرتقي بخدمات المدينة المختنقة إلى حبر على ورق، لتظل المدينة على حالها من البؤس والتراجع الفادح في الخدمات وكل ذلك انعكس على حياة السكان، وأنتج مجتمعا يعاني ضغط الحياة .
ويتساءل الكثيرون لم لا تقوم الحكومة بتحسين جودة الحياة في هذه الاحياء من خلال مشاريع على غرار بسماية لتصبح آمنة ولم لا توسع الطرقات وتزيد المساحات الخضراء بدلا من تجريفها وتحويلها إلى مجمعات كونكريته لمدينة تعاني الحر والتلوث، ولم لا تستلهم من تجربة بسماية دروسا يمكن أن تنتشل بها واقع الحياة في الاحياء ذات الكثافة السكانية، وحتى أحياء بغداد الجيدة نسبيا التي تنهك قاطينها مشكلات تراجع الخدمات.
ويعتقد الاقتصادي صادق عبد الرحيم أن تنامي الاحياء العشوائية وضعف الخدمات التي يحصل عليها المواطنون هو في الواقع قضية ذات أبعاد سياسية، فالدول الفاشلة هي الدول التي لا تخطط لحياتها ولا تبحث عن حلول لمشكلاتها.
وكان يمكن الاحتفاظ بمليارات الدولارات التي انتهت إلى جيوب الفاسدين، من خلال التعاقد مع شركات أجنبية تتولى بناء منظومة الكهرباء بطريقة الاستثمار، وكما حدث في تجربة بسماية وهي تجربة بحاجة إلى دراستها لمعالجة إيجابياتها وإخفاقاتها.
حياة إيجابية
ويربط الباحث التربوي والاجتماعي خالد العضاض بين السلوك الاجتماعي والعامل الاقتصادي في صنع الشخصية الايجابية التي تجعل حياتها وحياة المحيطين به أكثر إيجابية وفاعلية، فالاحساس بالامن والاستقرار والحصول على مختلف الخدمات التي تلبي حاجات الانسان العصري، تنتج سلوكا بشريا صادرا عن قوة عاقلة ناشطة وفاعلة في معظم الأحيان.
ويؤكد العضاض أن التغيرات التي نلحظها في سلوك الافراد المنحدرين من مجتمعات تعاني الحرمان وتضغط عليها المشكلات، لديهم القدرة الكامنة والمعززات الكافية لإحداث تغيير جوهري في بناء شخصيتهم، ولديهم الاستعداد لتقبل القيم الجديدة التي يعيشها المجتمع الجديد وأن سرعة اندماج الانسان بمجتمع أفضل أكثر من تقبل الناس التحول إلى حالة سيئة فهنا تغيب المحفزات، بينما هناك تتضاعف المحفزات، على التمسك بعملية تقوية السلوك المرغوب به من ناحية وإضعاف أو إزالة السلوك المرفوض.
السلوك المخطط
وتقول الباحثة الاجتماعة هالة السوداني إن كل النظريات التي وضعها باحثون تربط سلوك الافراد ببيئتهم فتوفير بيئة جيدة، للسكن، والتعليم، تضمن الخدمات الانسانية للافراد وتشتمل على مفردات احتياجاتهم وتسهل لهم حياتهم، وتخلق إنسانا مختلفا سلوكا وفكرا، لديه كل المعززات التي تدفعه إلى اختيار القرارات السليمة، والتصرف الايجابي، وهذا ما أشارت اليه نظرية للعالم الاجتماعي اجزين افترضها في عام ١٩٩١، وهي تربط السلوك الاجتماعي للفرد بالاختيار الادراكي الواعي الذي تحسب النتائج لأفعاله يمكن أن تشـتمل الضوابـط الداخلية على قدرة الشـخص على أداء السـلوك المنشـود (الكفاءة الذاتية، في حين تشير الضوابط الخارجية إلى توافـر المـوارد الخارجيـة اللازمـة لأداء هذا السـلوك) فالظـروف المهيأة لحياته التي تضمن كرامة الانسان وتمده بوسائل العيش الكريم تخلق انضباطا فكريا وذهنية متيقظة مستعدة لتقبل كل ما هو إيجابي.
وتؤكد السوداني ما يحدث للناس من تحولات نفسية واجتماعية، نتيجة تغير البيئة، إنما هو سلوك طبيعي سلط عليه العديد من الباحثين دراساتهم، لقد ارتبط العنف في حياة الناس بالضغوط الاقتصادية، وبالنظرة الدونية والتهميش، وتغير هذه الظروف سيكون لها بالغ الاثر على ضوابطهم السلوكية وهو ما توصلت اليه بحوث ونظريات عديدة ناقشت سلوك الانسان، ونزعته وتعلقها بالبيئة التي يعيش فيها.