بعد كورونا.. حليمة لن تعود إلى عادتها القديمة

1٬152

#خليك_بالبيت

ريا عاصي/

كانت الخالة أم ريمون وهي تجلس على (الكرويتة) في طارمة منزلها، تشرب الشاي وتحاور جارتها أم مازن من خلف السور الذي يفصل بين منزليهما وتفوح أزهار شجيرة الشبوي التي تتدلى أغصانها دون ترتيب، بعد غياب فلّاح الحي أبي حيدر لأكثر من شهرين بسبب جائحة كورونا، أثار هذا المشهد في أحد صباحات بغداد الربيعية في منطقة الكرادة في نفسي الكثير من المشاعر المتضاربة داخلي بين دمعة وضحكة وأنا التقط الطماطم من عربة أحد الباعة المتجولين الذين لم نعتد رؤيتهم قبل كورونا في الأزقة؛ هو والعديد من باعة الصمون والسمك والدجاج والرقي والبطيخ.
جائحة كورونا لم توقف عادة شرب شاي الضحى لأم ريمون وأم مازن، فهن ما زلن يمارسن نفس الطقوس لكن ليس وجهاً لوجه وينهين جلستهن الصباحية بتبادل التحايا من خلف السياج
ترى كم من العادات زالت وستزول وتتغيّر مع هذه الجائحة؟

خَرْقُ العادةِ إن لم يصبحْ عادةً لا يعوَّلُ عليه
الشيخ الصوفي ابن عربي
تختلف العادات والتقاليد من شعب لآخر حسب اختلاف اللغات والتضاريس والمناخ والسمات السابقة وتتنوّع أحياناً في اللغة الواحدة والبلد الواحد بحسب أنماط وسلوكيات يعتادها البشر من جيل لآخر حسب قواعد شفاهية يكتسبها الفرد وتتناقلها الأجيال دون التفكير في تغييرها الا حين تتعارض مع ما يؤمن أو ما يقدّس أو ما لا طاقة لها به.
لذا تغيير العادات والتقاليد ونمطيات العيش ليس بالشيء الهين، إذ تحتاج طاقة وقابلية لكسر نمطية ما اكتسبته سلفاً واعتاد الجميع عليه.

العدو واحد للكرة الأرضية
واجهت شعوب العالم العديد من المخاطر والصعوبات والحروب والقلاقل الا أنَّها لم تواجه خطراً يجمع القارات الخمس بقطبيها كما تواجه اليوم جائحة كورونا. إذ منذ منتصف أربعينيات القرن العشرين حين واجهت القارات خطر الحرب العالمية الثانية بصورة مباشرة. خلّفت هذه الحرب الملايين من الضحايا بين قتل وفقد وعوق وبين تقسيمات لحدود وظهور بلدان واختفاء أخرى ومما خلَّفته أيضاً تغيّراً كبيراً في عادات الشعوب، منها أن أغلب الدول الأوروبية التي كانت تواجه القصف الليلي بالطائرات الحربية ما تزال إلى يومنا هذا وبعد مرور نحو ٧٠ سنة الا أنَّها ما تزال تغلق أبواب محالها عند الساعة الرابعة عصراً بسبب حظر التجوال والقصف الليلي الذي كان يحدث حينها، إذ اعتاد الناس أن يغادروا محال أعمالهم ويهرعون لمساكنهم لتجمع العائلة بعد ذلك في أقبية الكنائس والمباني الكبيرة تجنّباً للقصف وما يزال الاوروبيون يتشاءمون من إشعال السيكارة الثالثة بنفس الشعلة للكبريت أو القداحة، إذ كانت الشعلة البسيطة في الظلام الدامس إشارة للطائرة بوجود مدنيين فيتم القصف.
أما القارة الافريقية من شمالها عند المغرب العربي إلى جنوبها في جنوب افريقيا لا يكسرون رغيفي خبز في آن واحد على المائدة ذاتها، إذ اعتادوا أن يكسر كبيرهم أوّل رغيف وحين ينتهي يكسر الثاني وذلك لأنَّهم عانوا المجاعات الواحدة تلو الأخرى إبان الحرب العالمية وبعدها واعتاشوا لأشهر على رغيف خبز وماء، فصار الخبز من مقدّساتهم.
كذلك المخترعات والأجهزة حين دخولها المنازل تغيّر من عادات الشعوب، فللكهرباء الدور الأكبر في تغيّر العديد من العادات، فأغلب الناس في العراق مثلا لم تعد تأخذ قيلولتها في السرداب مما حدا بالعمارة الحديثة أن تلغي السرداب لعدم الحاجة له، بعد أن دخلت أجهزة التبريد التي تعمل على الكهرباء من مراوح ومبرّدات ومكيّفات.
وبظهور شبكة المياه التي تدخل للمنازل تلاشت عادة إقامة حفلات الحنّاء وتزيين العروس وحلاقة العريس في حمامات السوق في البلدان الشرق أوسطية التي كانت تجمعها عادة إقامة حفل حنّة العروس في حمام السوق النسائي وحفل العريس كذلك، الذي كان يزف مشياً من الحمام لدار العروس مشياً على الأقدام أو بعربات الخيول، أمّا اليوم يزفوّن في سيارات ويتحمّمون في منازلهم.

كورونا وتحايا الشعوب
منذ شهر آذار الماضي شاهدنا على التلفاز ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الشخصيات العامة وهم يحيّون بعضهم البعض بطرق مبتكرة وجديدة يتفادون بها التلامس الذي اعتادوه أثناء التحية. إذ إنّ أغلب شعوب العالم اليوم تستخدم طريقة التصافح وهي الأكثر شيوعاً بين الناس باختلاف تحاياهم الشخصية التي نشؤوا عليها، فمن بين أغرب التحايا ما يحدث في الفلبين الذين اعتادوا أن يرفع المضيف ساقه اليمنى حتى تصل قدمه لوجه الضيف ويمرّغها بوجه الضيف، إلى التبتيين الذين اعتادوا أن يمدّوا ألسنتهم بمواجهة أحدهم الآخر، وبين تقبيل الأنوف عند الرجال من نيوزلندا ودول الخليج العربي، إلى تقبيل الكتف عند بعض القبائل العربية ومسك لحى البعض عند البعض من الهنود، إلى تقبيل الخدّين للفرنسيين والشرق أوسطيين والحضن لدى الاسكندنافيين وأبشعها البصق باليد ومسحها بوجه الضيف عند القبائل الافريقية وتقبيل الأيدي للنساء عند الطبقات النبيلة الاوروبية وعند العرب إكراما لكبير السن وكبير المقام.
كلّ هذي التحايا صارت من الماضي القريب، إذ استبدلت بطرق الانحناء الياباني وضم اليدين الهندي أسفل الوجه والانحناء عن بعد أمام بعضهم البعض، كما رأيناها من الامير تشارلز وهو يستقبل ضيوفه أو لصق كوع بكوع كما فعلت رئيسة وزراء المانيا ميركل مع قرينها من فرنسا ماكرون أو القبلة الهوائية التي أهدتها الجدات في إحدى دور المسنين في أميركا لأحفادهن وهم يمرّون في كراج الدار من بعد ومن خلف الزجاج.
أو وضع اليد على الصدر والانحناء كما فعلها أغلب الشرقيين في ما بينهم وهم يلتقون صدفة عند التسوق.
كلّ هذه الطرق تمّ ابتكارها خوفاً من نقل كورونا من شخص لآخر، بالرغم من ذلك ما زلت أشهد تقبيل البعض للبعض والتصافح غير آبهين بما يمكن أن يحدث.

كورونا ورمضان
اعتادت شركات الإنتاج العربية أن تصوّر مسلسلات وبرامج للعيد وتبدأ من قبل العيد بشهر ليتم تصوير بقية الحلقات أثناء الشهر الفضيل، هذا العام أغلب الشركات لم تكمل إنتاج مسلسلات رمضان وبالتالي وبالرغم من وفرة الإنتاج ووجود عدد لا بأس به من المسلسلات الا أن التي كانت تتصدّر دوماً ويراهن عليها لم تظهر على الشاشات، مما حدا بشركات الإنتاج إلى التفكير في عدم بثّ مسلسل لم يكتمل تصوير أحداثه لتجنّب الخسارات.
اعتادت عائلتي الكبيرة أن تتجمّع كل خميس في رمضان في منزل الجد الراحل والبيت الكبير يطبخ عشرة كيلوات من الحبية وستة كيلوات لحم عجل ليصبح عندنا قِدْرٌ كبيرٌ من الهريسة، يتم توزيعها بين الجيران والأقارب وأن تجلب كل عائلة طبقاً ما؛ فتعمّر سفرة كبيرة وضخمة ونجتمع أكثر من ثلاثين شخصاً في مطبخ واحد، فرّقتنا كورونا وصار قدر الهريسة الكبيرة قدوراً صغيرة توزعت لتطبخ في خمسة منازل أو أكثر.
واعتادت جارتي أن تجمع عوائل أبنائها وبناتها الذين يقطنون في حي واحد عند مائدة السحور الا أنّها هذا العام اكتفت هي وزوجها الحاج وكنّتها التي تسكن معها في المنزل نفسه بسحور تعدُّه في الباحة عند المرجوحة، مكتفيةً بسماع أصوات أحفادها من خلف السياج، إذ إنّهم يقطنون في الشارع نفسه في أربعة منازل متجاورة خوفاً على زوجها وابنها وحفيدها المصابين بالربو من الإصابة بكورونا.
والمعروف أن أغلب العوائل البغدادية تأكل الكاهي والقيمر والدبس والعسل في صباح عيد الفطر، واكتفوا هذا العيد بكاهٍ منزلي من عجائن البورك الجاهزة وعلب القشطة بديلاً عن قيمرالجاموس اللذيذ.
وكان الخاسر الأكبر في العيد الأحفاد الذين كانت تمتلئ جيوبهم ومحفظاتهم وحقائبهم بالعيديات من العمام والأخوال والأجداد بعد أن يتجمّعوا في مصباح العيد بطابور كبير عند تحية الجد.

كورونا والأحزان
أعلنت الأسر العراقية التي فقدت في هذه الأزمة أحد أفرادها؛ إمّا بسبب الجائحة أو لمرض أو مصاب آخر، عن عدم إقامة مجالس العزاء والاكتفاء بتلقي التعازي هاتفياً أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
صديقتي آية فقدت خالتها التي صارعت المرض الخبيث طويلاً، تحدّثنا خلال مواقع التواصل وأخبرتني بأنّها تتمنّى أن يتعظ الناس ويتخلوا عن مظاهر التفاخر في إقامة المآدب في مجالس العزاء، وقالت إنّ عائلتها حسبوا حساب تكاليف إقامة عزاء من تأجير لخيمة وقدور وكراسي وما إلى ذلك وما يتبعه من قهوة وماء ومصاريف ذبائح وعشاء لمدة ثلاثة أيام؛ اكتشفوا أنّهم بنفس المبلغ تمكّنوا من إعالة أربع عوائل متعففة ومتضررة بسبب الجائحة لمدة شهرين وإعانة مريض يحتاج لجراحة في الهند يبلغ من العمر 15 عاماً وهو مشلول وسيقف على رجليه بعد العملية.
وأضافت تقول: “تخيلي لو أنّنا نكتفي بزيارة عائلة الفقيد دون أكل وإضافة ما يمكن أن نتبرّع به لما حصل فقر في هذا العالم”.
الخاتمة
أجمل العادات هي التواصل والتراحم وأتعسها التظاهر والتبجح
يا ليتنا نتعظ ونترك عادات لنديم أخرى تغنينا عن غدر الزمان.

النسخة الألكترونية من العدد 360

“أون لآين -3-”