رحلةُ دجلة.. من العطشِ إلى الارتواء

1٬068

ريا عاصي /

شهد عام 2018 تحرير آخر شبر مغتصب من أرض العراق، وتتابعت الأحداث سريعة في عراق خالٍ من داعش، لكنه غارق في الفساد. وفضلاً عن الغرق المجازي، أضاف ارتفاع مناسيب الماء في نهر دجلة خطراً جديداً يهدد مدناً ومحافظات بغرق حقيقي، وأضيفت الى مخيمات النازحين الفارّين من خطر داعش آلاف الخيم الجديدة، لكن هذه المرة بسبب السيول وخطرها الذي داهم القرى على حين غفلة بين محافظات شمالية وجنوبية تبدأ من السليمانية شمالاً لتنتهي في ميسان جنوباً.
كيف بدأت القصة؟ مَن هم ضحاياها؟ وما الأسباب؟
شهد شهر آذار الماضي موجة من الأمطار الغزيرة والعواصف الرعدية التي أدت إلى ارتفاع مناسيب المياه في نهر دجلة في عموم البلاد وتصاعد في حدّة السيول في المناطق الشمالية من البلاد، اذ أدت إلى تغلغل السيول في مخيم (ديبكة) بمحافظة أربيل وتضرّر ٧٠٠ نازح، أما في محافظة دهوك فقد أدت السيول إلى انجراف السيارات وقطع طريق واحد، إلا أنه لم تحدث أية إصابات. لكن ما يؤسف له أن السيول في مدينة (جمجمال) التابعة لمحافظة السليمانية أدت إلى وفاة فتاة نازحة عمرها ستة عشر عاماً، اذ جرفتها السيول في قرية (كولة)، وانهار جسر على الطريق الرابط بين مدينتي (كلار ودربنديخان) جنوبي السليمانية. استعانت السلطة المحلية بالمنظمات الإنسانية المحلية والأجنبية لدرء الخطر ومساعدة الضحايا والناجين لتحصينهم.
أما في محافظة صلاح الدين، فقد جرفت السيول مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وبعض السيارات لمزارعي القرى وتوفي طفلان في محافظة ديالى نتيجة وجودهم بالقرب من ضفة النهر رغم التحذيرات التي أطلقتها السلطات بالابتعاد عن ضفتي النهر بعد حادثة غرق العبارة في الموصل التي راح ضحيتها ١٢٠ شخصاً.
أما في العاصمة بغداد، فلم تحدث حالات غرق، إلا أن ارتفاع منسوب مياه دجلة أدى إلى غرق المنشآت السياحية والعوامات وبعض أحواض السمك في منطقة (المشاهدة والكريعات) التي سجلتها أمانة العاصمة على أنها تجاوزات من قبل الأهالي ولا يمكنهم المطالبة بالتعويضات لأنها غير مرخّصة أساساً، وكان قد سبق تحذيرهم وإنذارهم بضرورة رفعها من على وجه النهر وإلا سترفعها الأمانة، لكن النهر فعلها دون سابق تحذير من أحدهم. وحذر بعض الناشطين من احتمالية غرق بغداد في الأيام المقبلة في حملة أطلقوها في موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك).
في ميسان وواسط تضاربت الآراء، إذ أعلنت بعض الأحزاب في تلك المناطق أن مدنها منكوبة مثل علي الغربي والعمارة، إلا أن السلطة المركزية ووزارة الموارد المائية كذبت تلك الأخبار، وأصدرت بيانات صحفية قالت فيها إن المياه مسيطر عليها.
حاولت “الشبكة” التحري عن الموضوع وأجرت حوارات مع بعض الناشطين والخبراء والجهات المعنيّة لمعرفة المزيد عما حصل وما يمكن أن يحدث.

هل ستغرق بغداد؟
أجاب المهندس المدني وسام غسان الذي يعمل في مديرية السدود:
“علينا أن نميّز أولاً بين الغرق والفيضان، فالغرق يحدث عند حدوث أمطار غزيرة وعدم وجود بنى تحتية كما حصل في الأعوام الماضية للحبيبة بغداد في عام ٢٠١٢ مثلاً اذ لم يرتفع منسوب النهر إلا بضعة سنتيمترات، لكن الغرق حدث لعدم وجود شبكة تصريف مياه من المدينة بنحوٍ كافٍ.
أما الفيضان فهو يحدث إذا انهار أحد السدود الضخمة، لا سمح الله، مثل سد الموصل أو سد دوكان، فسرعة المياه هي التي ستجرف كل شيء في طريقها وتعلو على سطح دجلة ويحدث الفيضان، إلا أن سد سامراء الذي يقف بشكل رأسي على نهر دجلة مهمته حماية المدن من الغرق، فهو يمرر ٧٠٠٠ متر مكعب في الثانية لكنه يعمل الآن بطاقة٢٥٠٠ متر مكعب في الثانية، وذلك بسبب قِدمه وهو جاهز للعمل لدرء الخطر ويمكن من خلاله تصريف المياه الفائضة عن الحاجة إلى بحيرة الثرثار عبر نهر الفرات بمعدل ١٠٠٠٠ متر مكعب في الثانية، فضلاً عن قناة الشرطة التي تستوعب ١٠٠٠ متر مكعب في الثانية، إلا أنها لا تعمل الآن بسبب التجاوزات، اذ كانت تستخدم سابقا للري ولدرء المخاطر، فالخطر إذن هو أن تغرق التجاوزات وليس المدينة نفسها.”
وأضاف “أن نهر دجلة فيه ما يكفي من السدود التي تدرأ الخطر عن فيضان مدننا الحبيبة اذ يوجد أحد عشر سداً أقدمها سد سامراء الذي افتتح عام ١٩٥٦ وأحدثها سد الوند الذي افتتح عام ٢٠١٣، علماً بأن هناك مخططات لإقامة تسعة سدود أخرى على نهر دجلة وفروعه ليس لدرء خطر الفيضان، ولكن لخزن الماء لمواسم الجفاف.”
وفي سؤالنا المهندس حسن الجنابي وزير الموارد المائية الأسبق قال :
“تقوم وزارة الموارد المائية بدورها المطلوب في حماية الأرواح والممتلكات وتسليك الموجات الفيضانية بطريقة ممتازة في وضع صعب يتطفل فيه بعض المغرضين والجهلة على اختصاصات الوزارة لتحقيق أهداف ليست بريئة.
إن تزامن ارتفاع إيرادات عمود نهر دجلة ومناسيبه مع زيادة كبيرة في إيرادات نهر ديالي (الذي يصب في دجلة جنوب مدينة بغداد) يجعل إدارة تسليك موجة الفيضان وتأمين سلامة المنشآت، وحماية مدن ومحافظات واسط وميسان من الغرق مهمة ليست سهلة، اذ يضطر مشغلو سد الموصل وسد سامراء، اضافة إلى مشغلي سد دوكان ودربندخان وحمرين، إلى اجراء حسابات دقيقة واتخاذ قرارات مهمة لحماية بغداد،
ورغم أن المؤشرات الحالية تشير إلى سيطرة ممتازة على المناسيب بأقل ما يمكن من الخسائر، فلا بد من الاستفادة من دروس الوضع الحالي لتعزيز حماية العاصمة بغداد من احتمالات الفيضان في المستقبل.”

الملوحة أخطر من الغرق
الخبير الجيولوجي سعد سام قال:
“مشاكل المياه عديدة في العراق، اليوم صرنا نخاف الغرق بعد أن كنا مهددين بالجفاف!
أين كانت وزارة الموارد المائية من عمليات كري الأنهر؟ إن عملية كري الأنهر تجنبنا خطرين؛ الأول الجفاف، اذ سيكون نهر دجلة حوضاً جيداً يحتفظ بكمية مياه مناسبة تغنيه عند قلة المناسيب المتدفقة، وعند زيادة منسوب مياه الأمطار وذوبان الثلوج سيكون لدجلة متسعٌ ليرتفع منسوبه دون خطر على صعوده لضفتيه.”
أضاف قائلاً “الحقيقة علينا الاكتفاء بالسدود الموجودة والاهتمام بكري الأنهر التي تحولت ملوحتها من ١٥٠ ملغم في اللتر إلى ٨٠٠ ملغم في اللتر لنهر دجلة، وتفريغ مياه الثرثار شديدة الملوحة بطريقة صحيحة اذ عملت الوزارة على تفريغ الخزين الحي فقط دون الميت لأنها لا تمتلك العدد الكافي من المضخات، أما الحل الثاني فهو اكمال سد بخمة الذي توقف بسبب سرقة معداته.”
وأكد “أن كري الأنهار عمل مكلف ومتعب لكن هذه العملية لم تجرِ منذ سنين ولم يكن هناك ما يكفي من المياه لتنظيف الأنهار.”
في الجانب الآخر، أعلنت مجموعة من الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي أن مدينتهم منكوبة وعبّروا عن غضبهم لتبرع الحكومة لضحايا إيران وعدم التفاتهم لضحايا محافظتهم ميسان إثر الفيضان، علماً بأن إيران خسرت العشرات من الضحايا المدنيين إبان غرق مدنهم في موجة من السيول التي جرفت منازلهم، ولم تسجل حالات وفيات في محافظات الجنوب.

القانون لا يحمي المتجاوزين
التقت “الشبكة” السيد (أبو حسام) الذي رفض أن يفصح عن اسمه الصريح من محافظة ميسان فقال:
“أود أن أسجل شكواي دون ذكر اسمي لأني أخاف ثارات المتنفذين! تبدأ قصتي حين ضمنت أرضاً للزراعة في منطقة تقع في هور(المصندك) سابقاً، الذي جُفف منذ عقود، ويقوم أحد المتنفذين في المنطقة بجني المال من خلال تضمينه لنا نحن المزارعين قطع أراضٍ لزرعها، علما بأني أزرع فيها منذ سبعة أعوام وأسكن كذلك مع عائلتي، وقد فوجئت هذه السنة بأن الحكومة المحلية فتحت المياه على أراضينا المزروعة لحماية المدينة من الغرق، حسب قولها، وقد غرقت أرضي في ١٢ ساعة وتلف المحصول كله الذي أهدرت وقتاً ومالاً في زراعته وانجرف منزلي البسيط ولم يعد لي لا سقف ولا حلال اعتاش منه.”
وفي سؤالنا لأبي حسام عن قيمة التضمين قال “لكل دونم كان يأخذ هذا الشخص مبلغاً قدره خمسون ألف دينار علماً أني ضمنت لديه ٢٥ دونماً، وفعل الأهالي مثلي وهناك من تمكن من تضمين أكثر من مئة دونم.”
الناشط الدكتور أحمد صالح نعمة من مدينة العمارة قال: “نشرت وما زلت أنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلات فيديو أحاول فيها طمأنة الناس على حال المدينة إذ أن كمية المياه التي تصل للعمارة كبيرة جداً، إلا أن الوضع مسيطر عليه، ويردنا من نهر دجلة جهة الكوت ١٠٠٠ متر مكعب في الثانية، فتحة مهرب المصندك تأخذ ٢٨٠ متراً مكعباً في الثانية تصب في هور المصندك الناشف أساسا، والمهرب الثاني هو كميت يأخذ ١٨٠ متراً مكعباً في الثانية والمتبقي يصل ٦٠٠ متر مكعب في الثانية وهو طاقة تحمل نهر دجلة في مدينة العمارة. المنازل التي غرقت هي بالأساس لمنازل متجاوزين بنوا منازلهم في المنخفض في هور المصندك وهي منازل معدودة ولم تكن هناك أية خسائر بشرية.” يضيف قائلاً “حاول البعض استغلال الموقف واعتبار المدينة منكوبة إلا أن الحقيقة أن الهور عادت له حياته الطبيعية.”

آذار.. أبو الهزاهز والأمطار!
كانت للجدّات مقولات يرددنها في كل موسم ليصفن المواسم وليعلّمن بناتهن طرق الوقاية من خطر تغير الفصول، وقد خصصن آذار بمقولة (آذار أبو الهزاهز والأمطار)، إلا أن الهزاهز الطبيعية لم تزر العراق في آذار منذ أعوام عدة، وقلّ المطر وجفّ العديد من الأذرع والممرات التي يمر بقربها دجلة وانحسرت مياه دجلة بشكل مرعب قبل عام بعد أن شرعت تركيا بملء خزان سد اليسو وكان ذلك تهديداً وشيكاً لدجلة بالجفاف.

غرق العبّارة يكشف المستور
تحول عيد الربيع (النوروز- ٢١ آذار٢٠١٩ ) إلى مأتم كبير في هذا العام إذ ابتلع دجلة ١٢٠ مواطناً عراقياً موصلياً كانوا يحتفلون بثاني ربيع لمدينتهم خالٍ من داعش. غرقت العبّارة التي كانت سعتها الاستيعابية أقل من مئة شخص، لكنها كانت تحمل أكثر من مئتي فرد بسبب الطمع والجشع، ليبتلعهم النهر الذي كان قد زاد منسوب مياهه بسبب فتح أحدهم لناظم سد الموصل، الذي اتهمه الأهالي بأنه يفتح بالرِّشا لري أراضٍ معينة لشخصية متنفذة في سلطة المحافظة، فضلاً عن عدم توفر شروط السلامة من عوامات وطوافات للركاب وقلّة خفر الشرطة النهرية. تفاقم الأزمة جعل حكومة المركز تفتح تحقيقاً موسعاً لتكشف العديد من الجرائم التي حدثت وتحدث بسبب الفساد الإداري في مركز المحافظة، اذ أكدت هيئة السياحة أن الجزيرة السياحية في غابات الموصل التي وقعت فيها حادثة العبارة ليست من ضمن أملاكها، بل هي تابعة لدائرة عقارات الدولة ولم تُمنح إجازة لمزاولة العمل السياحي من قبل هيئة السياحة للمرفق بشكل عام أو للعبّارة بشكل خاص، وقد أعطيت لمستثمرعن طريق هيئة استثمار نينوى. أقيل محافظ نينوى ومساعداه وتم توجيه مذكرة لإقليم كردستان لتسليمه إذ فرّ إلى أربيل كما تم اعتبار ضحايا العبارة شهداء ليتم تعويض ذوي الضحايا وتلبية مطالبهم.

اللجان …الى أين؟
كل حادثة حصلت وتحصل في العراق تُحال إلى لجنة تحقيقية..هذه اللجان لها حقوق وعليها واجبات..الحقوق ليست مشكلتنا لكن نتائج هذه اللجان لم نذق لها ثمراً ولم نحصل على نتيجة.
إثر حادثة العبارة في الموصل شرعت مفارز الشرطة النهرية في نهري دجلة والفرات بالتحقيق والتأكيد على وجود نجّادات للطوارئ في كل مركب سائر في النهر، ومنع صيادي السمك والبلّامين من الإبحار في النهر أثناء ارتفاع مناسيب مياهه.

دجلة الخير
ذات مساء ربيعي بغدادي كنت أعبر جسر باب المعظم مشياً على الأقدام لألمح عند خضر الياس تجمهراً شعبياً، ومجموعة من الضفادع البشرية تجلس عند حافة النهر، وثمة أمٌ بغدادية تنزل النهر مشياً كحورية وتغمس صدرها في الماء لتنادي على ابنها الغريق باسمه، وإذا بجثة تطفو على وجه دجلة، فيتقافز فريق الضفادع لينتشلها دون تعجب وكأنهم كانوا على يقين من خروجه حال شمّه لحليب صدر أمه… وتعالى في رأسي مقطع أغنية عراقية تقول (مثل ام ولد غركان وابرى الشرايع)
وعرفت معنى قدسية الأم ودجلة.
دجلة رغم كل قسوته اليوم، إلا أنه منحنا الكثير الكثير، لهذا السفح نحن أبناء دجلة اليوم مطالَبون بأن نرفع عنه جثامين أوساخنا وخلافاتنا وفسادنا ومطالبون جميعاً بأن نرفع عنه حيف هولاكو وكل مدمر له.. أنقذوا دجلة من سرطان البلاستيك والنفايات التي تخفي وجه دجلة.. دجلة الخير.