مشكلات وشبهات فساد تحيط بمشاريع الإسكان في بغداد

1٬659

إياد الخالدي – تصوير: بلال الحسناوي /

جدل وشبهات فساد تحوم بشأن العديد من المشاريع الإسكانية التي تنفذها شركات الاستثمار والتطوير العقاري ومقاولون عراقيون، ولاسيما أن أغلبها تنفذ في أحياء راقية وسط العاصمة بغداد بمحاذاة نهر دجلة، حيث ترتفع أسعار الأراضي المطلة على النهر بالمقارنة مع باقي الأحياء، فضلاً عن أسعار الوحدات الباهظة الكلفة وشكاوى لا تتوقف بشأن تنصل المقاولين عن التزاماتهم في تسليم المواطنين وحداتهم المدفوعة أثمانها في موعدها المحدد، وتركها من دون خدمات أساسية ينبغي توفرها في أي مشروع سكني.
يعتقد خبراء ومراقبون أن أغلب المشاريع الاستثمارية تفتقر إلى رؤية لحل أزمة السكن ومعالجة العشوائيات والتجاوزات داخل بغداد، ولاسيما أنها تحظى بدعم الحكومة عبر القروض التي يقدمها القطاع المصرفي، ولم يعد مشهد المواطنين، ممن وقعوا ضحية لتلك الشركات، غريباً وهم يحتشدون أمام هيئة استثمار بغداد بحثاً عن حل لتورطهم في شراء وحدات سكنية من الجهات التي حصلت على فرص استثمارية من الهيئة التي تطالها الاتهامات بالفساد وسوء الإدارة.
تساؤلات
يتساءل (كريم عزيز) عن فائدة مشاريع إسكانية لا يستطيع المواطن الحصول عليها، ولاسيما الموظفين وأصحاب الدخل المتوسط، إذ تصل أثمانها إلى ما يقارب الـ ٣٠٠ ألف دولار! وهي مبالغ يصعب توفرها لدى أغلب المواطنين الذين يعانون بالفعل من أزمة السكن، وتنهكهم بدلات الإيجار العالية، وهي الشرائح التي ينبغي أن تفكر الدولة بحل مشاكلهم، لكن على ما يبدو فإن هذه المشاريع لا تهدف إلى حل أزمة السكن، بل لتوفير الرفاهية لنوعية محددة من شرائح المجتمع.
يقول عزيز: عندما تسألهم عن سبب ارتفاع أسعار هذه الوحدات السكنية يأتيك الجواب بأنها تقع في أماكن ستراتيجية، أو أنها تطل على نهر دجلة، وتقع في مناطق يصل سعر المتر المربع فيها إلى مليوني دينار. ويعرب كريم عن استغرابه من تلك الإجابات لأن الأرض الاستثمارية تخصص لهذه الشركات بسعر شبه مجاني فيما هم يحاسبون الناس على سعرها.
فقدان الثقة
وباستثناء مشروع بسماية السكني، الذي تنفذه شركة (هانوا) الكورية، فإن المواطن لا يثق بالشركات العراقية بسب المشكلات الكبيرة التي رافقت عملها، باستثناءات محدودة ينبغي الإشادة بعملها، على الرغم من أن السنوات الخمس الفائتة خصوصاً شهدت ازدياداً لافتاً في المشاريع الإسكانية الصغيرة، بالمقارنة مع مشروع بسماية الذي رعته هيئة الاستثمار، ومازال يستقطب المواطنين بسبب تكامله وشموله على الخدمات الأساسية، ولاسيما الكهرباء، لكن مشكلته الوحيدة هي بعده عن مركز العاصمة، وهي مشكلة كانت الحكومة قد تعهدت بحلها عن طريق إنشاء طريق سريع يربط المدينة بالعاصمة.. لكنها وعود!
مشروع الزهور.. بلا كهرباء
في موقع متميز على طريق محمد القاسم، شيّد مقاول عراقي مشروع الزهور السكني، هذا الموقع وطريقة تسديد مبلغ قيمة الوحدات السكنية، المريحة نسبياً، ولّد حماساً لدى مواطنين اكتووا بأسعار الإيجارات، في الإقبال على تملك وحدة سكنية فيه. وعلى الرغم من التزام المواطنين بدفع كل مستحقات الشركة، إلا أن الشركة تنصلت عن التزامها بتوفير الخدمات الأساسية لهذا المشروع الإسكاني الذي يتلكأ العمل فيه، ويعاني شاغلوه نقصاً فادحاً في الخدمات، ولاسيما الكهرباء.
يقول (محمد الربيعي): ابتعت شقة في هذا المشروع الإسكاني لكني، مثل عشرات بل مئات المواطنين، لم أتمكن من السكن فيها، بينما أنا ملزم بدفع كل ما بذمتي من باقي أقساط مبلغ الشراء. ويضيف أن صاحب المشروع يبرر عدم إكمال المشروع بأن البنك لم يسلمه مستحقاته المالية، بينما ترمي هيئة استثمار بغداد الكرة في مكان آخر وتتحدث عن وجود أخطاء في العقد المبرم مع المستثمر، وهو أمر لا ذنب للناس فيه، بينما يعمل موظفون في وزارة الكهرباء على ابتزاز الناس واستغلال محنتهم لدفع أموال كبيرة مقابل إيصال الكهرباء إلى المشروع، ويسعى شاغلو المشروع جاهدين لحث الوزارة على إيصال الكهرباء إليه. ويذكر الربيعي أنه بسبب هذا الوضع تضطر العوائل المتورطة بشراء وحدات سكنية في هذا المشروع الذي اضطرت إلى الانتقال إليه، وهم بحدود ٢٥٠ عائلة، إلى جمع المال لتشغيل أربع مولدات جلبها المقاول، اثنتان منها عاطلتان، وتتكفل كل عائلة بدفع مبلغ ٣٠٠ ألف دينار شهرياً لشراء وقود تشغيل المولدات.
مشروعا اليمامة والعامرية
والواقع أن قصة تنصل الشركات الاستثمارية عن التزاماتها تجاه المواطنين تتكرر في أكثر من مشروع، فقد شهد العام الفائت أكثر من تظاهرة لمواطنين وقعوا ضحية تلكؤ الشركات الاستثمارية بتسليم الوحدات السكنية للمواطنين الذين دفعوا التزاماتهم المالية كاملة لها من دون أن توفر لهم الخدمات الأساسية التي تضمنها العقد بين الطرفين من توفير للكهرباء وخدمات الإنترنت والوقود والتكييف، ومنها مشروع اليمامة السكني. واتهم المتظاهرون هيئة استثمار بغداد بحماية المقاولين الفاسدين، ولاسيما أن القانون العراقي ينص صراحة على سحب أي مشروع تلكأت الجهة المنفذة له، وطالبوا الحكومة بالتدخل لإعادة حقوقهم، لكن دون جدوى.
مشاريع الحكومة تواجه المشكلات نفسها، فمنذ العام ٢٠١٢ يتظاهر موظفو وزارة الإسكان ضد وزارتهم التي تسلمت أموالهم في ذلك التاريخ لبناء مجمع لهم في العامرية، لكن المجمع مازال عبارة عن أسس وركائز كونكريتية تآكلت بفعل الإهمال. ومع أن خمسة وزراء تبادلوا على إدارة الوزارة، لكنهم جميعا تبرأوا من قصة المشروع ومعرفة مصير الأموال التي دفعها موظفو وزارتهم، وتلك مفارقة مثيرة للأسى والمرارة أن تضيع أموال المواطنين عند مؤسسة عامة واجبها حماية حقوقهم وأرواحهم.
مشاريع متميزة.. ولكن
على مساحة ٥٤ دونماً، تطل على نهر دجلة، نفذت شركة الغدير للاستثمارات العقارية نصف نسبة إنجاز مشروع (جواهر دجلة)، وهو واحد من أكثر المشاريع التي تستقطب المشترين على الرغم من أن سعر المتر المربع الواحد فيه يصل إلى أكثر من ١٢٠٠ دولار، وأصغر وحدة سكنية فيه يصل سعرها إلى ١٦٠ ألف دولار، ويسلم المبلغ على أربع دفعات خلال مدة إنجاز تقول الشركة إنها لا تتجاوز العامين.
وتزداد وتيرة العمل في مشروع دار السلام السكني المشيد على أرض مطار المثنى وسط العاصمة بغداد. وبحسب مدير المشروع (حامد البياتي) فإن المشروع الذي تنفذه (شركة الفيض) يتألف من ٢٨ عمارة سكنية تشتمل على ١٥٠٠ شقة سكنية تشيد وفقاً لأفضل المواصفات وبإشراف المكتب الاستشاري لجامعة بغداد.
ويشكل هذا المشروع مفارقة عجيبة يصعب إيجاد وصف لها في قاموس اللغة العربية، فالمشروع يعود إلى دائرة الضمان الاجتماعي للعمال والمتقاعدين، هذا يعني أنه شيد باستثمار أموالهم في المشروع، لكن أقل وحدة سكنية فيه يبلغ سعرها نحو ٢٥٠ مليون دينار، ومن المستحيل أن يفكر مواطن يعتاش على راتب الضمان الاجتماعي أو التقاعد بشراء وحدة سكنيه فيه، وأن هذا المشروع ينتهي بالتالي لمصلحة وفائدة جهات احتالت على عقول الناس، قبل أموالهم، هذا المشروع يلخص قصة أخرى ونموذجاً آخر للفساد.
كما تنفذ مشاريع إسكانية أخرى في المنصور باسم مشروع المنصور ستي، ومشروع بوابة بغداد، ومشروع العطيفية السكني، لكن القاسم المشترك لهذه المشاريع هي أنها جميعاً تحتل مواقع توصف بالحيوية والمهمة وسط العاصمة وأغلبها يطل على نهر دجلة، وتباع بأسعار باهظة لشرائح محدودة، ليس من بينها الموظفون ومتوسطو الدخل.
اتهامات
يدافع المسؤولون في هيئة استثمار بغداد عن سبب ارتفاع الأسعار بكون المستثمر ملزماً بتوفير الخدمات والبنى الأساسية لهذه المشاريع.
لكن الصحفي الاقتصادي المستقل (زهير الفتلاوي) يرفض تبريرات الهيئة، لكون المشاريع تقع في مناطق مخدومة، وكان الأجدر أن تستغل لإنشاء مشاريع عامة لخدمة سكان العاصمة، كالمشافي والمدارس والحدائق العامة، مؤكداً أن هذه المشاريع أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها مشبوهة ومخصصة للشرائح العالية الدخل، وليس من أهدافها حل أزمة السكن بل للتكسب، وتسبب بعضها بتصحير بغداد، ولاسيما أن مساحات العديد منها كانت مناطق خضراء، كما أنها أدت إلى زيادة التلوث والازدحامات، وعلى حساب الذوق والأنظمة والقوانين، متهماً الهيئة بأنها تتمادى في تشويه وجه بغداد تحت ذريعة واهية اسمها الاستثمار وهي ليست إلا مشاريع تقف وراءها جهات متربحة لا تهتم بمصالح المواطنين، بل إن مشروع العطيفية يعود أصلاً لمسؤولين كبار في هيئة الاستثمار.. حسب الفتلاوي.
ويعتقد الفتلاوي أن هيئة استثمار بغداد باتت بؤرة للفساد، وأن استمرار استيلائها على أراضي وممتلكات الدولة والمتاجرة بها تحت بدعة الاستثمار، لهو أمر خطير وتدمير ممنهج لبغداد ولمستقبلها.
والواقع أن البرلمان العراقي ذاته يقر بوجود شبهات فساد في مشاريع هيئة استثمار بغداد، ويتهمها بتدمير عاصمة البلاد بفعل مشاريع مثيرة للجدل تحوم حولها الشكوك. وفي هذا الصدد تقدم عضو لجنة الاستثمار النيابية (سعد الخزعلي) بطلب رسمي يقضي بتشكيل لجنة تحقيقية لملفات ووثائق تدين الهيئة ورئيسها بالفساد.. بحسب بيان الخزعلي. يضيف الخزعلي في بيان له أن على رئيس الوزراء إيقاف هذا الفشل والتدمير وأن يحاسب رئيس هيئة الاستثمار عما ألحقه ببغداد من تخريب.
في ذات السياق، تحدث عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار البرلمانية (عبد السلام المالكي) عن ملف فساد كبير يتعلق بتوزيع مساحات من الأراضي التي وصفها بالستراتيجية مجاورة لمطار بغداد الدولي.
وكشف المالكي عن قيام الهيئة بمنح أراضٍ أنفقت الحكومة العراقية، بدعم أميركي، أموالاً طائلة على تصميمها، إلى مستثمر أجنبي، يعمل هذا المستثمر بدوره على تسليمها إلى مستثمرين محليين، محذراً من أن هذا العمل يعد بمثابة خيانة كبرى.. على حد تعبيره.
فساد + فساد
وبينما تتصاعد المطالبات بمزيد من الشفافية في عمل هيئة الاستثمار الوطنية، وهيئات الاستثمار في المحافظات، فإن خبراء القانون يصنفون العمل الاستثماري في مشاريع الهيئة، ولاسيما في مشاريع الإسكان، بأنه فساد وعمل غير قانوني.
في هذا الإطار، يشير الخبير القانوني طارق حرب إلى أن هنالك نوعين من الفساد أحدهما فساد غير قانوني، والآخر فساد يسنده ويؤسسه القانون، ومن الفساد القانوني ما ورد في قانون الاستثمار إذ تمنح الأراضي بدون مزايدة، وفي هذه الحالة يتولى الموظفون الفاسدون منح الأراضي بأثمان بخسة، حتى يمكن اعتبارها بدور أثمان، وبمراجعة بسيطة لأضابير العقارات للتأكد من النتيجة، ولاسيما المولات والجامعات ومدن الملاهي وسواها، يبدو هذا الفساد بشعاً ومدمراً لبغداد ومستقبل العيش فيها. وقال حرب إن مشاريع الاستثمار في مناطق حيوية ليست سوى صفقات مشبوهة تعقد تحت لافتة الاستثمار التي يحصل بموجبها المستثمر على إعفاءات كمركية تتيح له إدخال شتى البضائع بدون رسم كمركي، حتى إن كانت ليست لها علاقة بمشروعه وما عليه سوى إبراز شهادة الاستثمار، إنه باختصار فساد + فساد.
مشاريع واقعية
مع هذا فإن ثمة مشاريع استثمارية واقعية تسهم فعلاً في حل أزمة المواطن، لو تعمل الشركات العراقية على إنجازها بأمانة وبالتزام كامل مع المواطنين. من بين هذه المشاريع الواعدة هو مشروع (نجمة بغداد) السكني على طريق أبو غريب، حيث تنفذ الشركة مشروعاً لبناء وحدات سكنية بطريقة البناء الأفقي الملائم لأذواق الناس وبسعر مقبول، وتتكفل الشركة بإيصال الخدمات لهذا المشروع الذي تباع وحداته بمساحة ٢٥٠ متراً بسعر مقبول وهو ١٦٠ مليون دينار وبطريقة التقسيط، وفي حال حصول المواطن على قرض حكومي يمكن له الحصول على مكان فيه، ويبدي العديد من المواطنين ممن تقدموا لشراء وحدات سكنية في هذا المشروع تفاؤلهم بنجاح المشروع وتسلمهم وحداتهم السكنية في موعدها المحدد، لكن ثمة مخاوف فقط من عملية إيصال الخدمات للمشروع يظهرها عدد منهم.
يسود اعتقاد كبير أن المشاريع الاستثمارية التي تدعمها الحكومة، عن طريق مصارفها، هي أفضل السبل لحل مشكلة السكن. إذ يعرب الاقتصادي (خالد العضاض) عن أمله في أن تسود تقاليد العمل والإخلاص لإنقاذ بغداد من هذا العبث بفعل الجشع والجهل، مشيراً إلى أهمية أن تثبت الشركات العراقية وهيئة الاستثمار جدارتها في العمل وأن تسعى إلى كسب ثقة الناس، فالشركات الناجحة هي التي تعمل على كسب هذه الثقة بالتزامها وعملها الجيد، ولغاية الآن تسعى هذه الشركات، التي تولد بالصدفة، إلى أساليب عمل ملتوية بسبب الفساد وغياب دور الدولة وعدم محاسبتها المخالفين لقوانين العمل والاستثمار.
ويقول العضاض إنه ليس من المعقول أن نبني مشاريعَ في مناطق بغداد القائمة والمخدومة أصلاً، إنما يجب أن نعمل على إنشاء مشاريع في مناطق غير مخدومة، وهذا هو دور المستثمر الذي يحصل بموجبه على كل هذه الامتيازات، فضلاً عن دعم واضح وملموس من المصارف العراقية التي تتبنى أغلب المشاريع الاستثمارية. وحذر من تحويل ضفاف دجلة إلى الاستثمار الآن من دون خطط تضع في حساباتها جمالية الضفاف وتحويل مساحتها إلى فضاء يستمتع به جميع سكان بغداد، واصفاً المشاريع الترفيهية المقامة عليه بأنها دكاكين في سوق شعبي تسوده الفوضى، مطالباً بأن تتولى الدولة تنظيم ضفتي النهر قبل الشروع بعمليات استثمارية فاشلة لا تحقق سوى مكاسب شخصية وكتلوية بائسة.