أبرزهم أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب مطربون غنوا لبغداد وحاضرها الزاهر

112

بغداد ــ عادل مكي/
كانت بغداد، وما زالت، حاضرة الدنيا وقبلة العاشقين، مدينة الحب والسلام، عاصمة العلم والمعرفة التي اقترن اسمها بالخلود الأزلي، فهي كما قيل عنها أم المحاسن والطيبات، ومعدن الظرائف واللطائف. ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها، كتبت عنها آلاف الحكايات، وتغزل بها شعراء الكون، وأنشد لها عظماء الطرب العربي، فهي الاسم والروح والهوية. بغداد كانت وستظل قبلة العاشقين، المدينة التي لن تشيخ أبداً.

بها تغنّى أشهر المطربين والمطربات العرب في أعمال متعددة نالت الشهرة في فترات إنتاجها. بعضها صمد وآخر قبع في خانة النسيان، وقسم منها ما يزال ماثلاً إلى اليوم، فيما اختفت الأغاني التي كانت تمجد الملوك والحكام والقادة والأفراد، لأنها تزول بزوالهم. ولا عجب أن تحضر بغداد في الأغاني، طالما أنها حاضرة بشكل كبير في قصائد الشعراء على مر التاريخ، ولعل أشهر من غنّوا لبغداد كوكب الشرق أم كلثوم، والسيدة فيروز، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.
فيروز وبغداد
غنت السيدة فيروز لبغداد مرتين، لكن ما حدث في المرة الثانية آنذاك كان أمراً مهماً، إذ إنها جاءت عام 1976 لتحيي حفلاً غنائياً في بغداد، وعندما دخلت قاعة الخلد لتؤدي أولى أغنياتها، قصيدة (بغداد)، شاهدت على يمين القاعة صورة كبيرة للرئيس العراقي السابق أحمد حسن البكر وعلى يسار القاعة صورة نائب الرئيس صدام حسين، فرفضت الغناء وطلبت من المسؤولين رفع الصورتين فوراً، وقالت لهم إنها جاءت لتغني لبغداد وليس للسياسيين، وعندما حاول هؤلاء معها للعدول عن موقفها رفضت وهددت بسحب الفرقة الموسيقية ومغادرة العراق، حينها جرى رفع الصورتين والرضوخ لطلبها، وأكملت الحفل، فكانت قصيدة (بغداد والشعراء والصور) أجمل ما أنشد لبغداد على مدى الدهر، أيقونة لن تتكرر أبداً.
أم كلثوم
أما سيدة الغناء العربي أم كلثوم فقد غنّت لملك العراق بمناسبة عيد مولده في العام 1946، كما أنها زارت العراق قبل ذلك في العام 1932وأحيت حفلات بملهى فندق (الهلال) في شارع الرشيد. لكن أغنيتها الأشهر والأروع المرتبطة بشكل مباشر ببغداد، هي (بغداد يا قلعة الأسود)، التي قدمتها في العام 1958بعد ثورة 14 تموز التي أطالحت بالملكية.
‎وكانت القيادة المصرية الناصرية قد طلبت من أم كلثوم أن تتلو تهنئة للعراق بمناسبة الثورة تبثها الإذاعة، لكنها فضّلت أن تغني أغنية بدل تسجيل بطاقة تهنئة، وقد كتب محمود حسن إسماعيل كلام الأغنية، وطلبت أم كلثوم من رياض السنباطي أن يلحنها. وقد لاقت الأغنية نجاحاً كبيراً في العراق، واعتمدتها إذاعة بغداد كأغنية افتتاحية على مدى سنوات.
‎موسيقار الأجيال
الموسيقار محمد عبد الوهاب بدوره غنّى من ألحانه لبغداد، تحية إلى الملك فيصل، من كلمات أحمد شوقي. وحكاية هذه الأغنية، حين قابل الشاعر أحمد شوقي الملك فيصل في إحدى زياراته إلى باريس، وقد دعا الملك (أمير الشعراء) إلى زيارة بغداد، فوعده بتلبية دعوته، لكنه لم يذهب لصعوبة المواصلات في ذلك الوقت. ثم كرّر الملك فيصل دعوته بعد ذلك ببضع سنوات، وتحديداً في العام 1931، فلم يسع شوقي إلا أن يرسل له تحية شعرية مع المطرب الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب، الذي كان قد سافر إلى بغداد حيث نزل ضيفاً على جلالته، وقد غنى عبد الوهاب هذه التحية بين يدي جلالة الملك.
كما غنى العديد من المطربين لبغداد في فترات لاحقة، منهم الفنان الكبير الراحل فريد الأطرش الذي غنى (بساط الريح) في بغداد، وكذلك المطرب موفق بهجت في أنشودة (أهلاً بغداد حبيبتنا)، والمطربة دلال شمالي في أغنية (من قاسيون أطل يا وطني)، ووردة الجزائرية في قصيدة (بغداد)، وسميرة سعيد في أغنية (عراق الكرامة)، ولطفي بوشناق (أنا العراق)، وعاصي الحلاني (صباح الخير يا بغداد)، والمطربة نور عرقسوس (احجايات بغداد)، والمطربة ديانا كرزون (وديني على بغداد)، وسوزان عطية (بلد السناء)، وختمها بالإبداع المطرب حسين الجسمي في أغنية (كلنا العراق)، كما توج الفنان كاظم الساهر بغداد بأغنيته الرائعة (كثر الحديث)، من كلمات الشاعر كريم العراقي.
كانت ليالي بغداد تعج بالجمال، إذ لا يكاد يخلو ليلها من مجالس السمر حتى ساعات الفجر الأولى، يتوسطها دجلة العظيم، الذي تغفو على جانبية، مدينة المدن الساحرة بجمالها، التي أنجبت جهابذة العلم والعلماء وفطاحل الفن والشعر أمثال أبي العتاهية والعباس بن الأحنف، ومؤرخين أمثال عبد الملك الأصمعي والواقدي، وعلماء أمثال محمد بن موسى الخوارزمي وأبي بكر الرازي والكندي، والإمام أحمد بن حنبل، والموسيقار زرياب ومعروف الرصافي، والكثير من القامات الفنية والأدبية والعلمية، لذا فإنها كانت مثار إعجاب العالم.
زادها هيبة وجود المراقد الدينية والمكتبات العامة وأماكن الترفيه، وانتشرت فيها المقاهي الأدبية كمقهى الزهاوي والبيروتي وأم كلثوم وحسن عجمي. كل تلك المعالم جعلت منها أيقونة المدن، صاحبة التاريخ الثر الذي لن يموت. بغداد التي كانت وستبقى عروس العرب، يقصدها العاشقون من كل أطراف الدنيا، فهي خاصرة العروبة وقلبها النابض. سلاماً لبغداد في كل حين، سلاماً لبغداد مدينة الإبداع والمبدعين، جمجمة العرب وكنز الرجال.