أزمة الأغنية السياسية.. الزعيم والجمهور والفنان

737

عواد ناصر/

عام ١٩٦٦ عام من أعوام اليسار الستيني في العام كله، حيث اكتمل نجم جمال عبد الناصر عربياً، قبيل هزيمته المدوية عام ١٩٦٧ أمام إسرائيل، وقبلها كان أرنستو غيفارا ضيفاً عليه محتفىً به بينما كانت ثورة الطلبة والشبيبة في أوروبا تعد نفسها لتغيير كبير في الفكر والفن والسياسة انطلاقاً من عاصمة النور الفرنسية باريس.

في تلك الفترة كانت أغنية “صورة” للفنان الراحل عبد الحليم حافظ واحدة من أهم “الأغاني السياسية” العربية، وهي من كلمات الشاعر صلاح جاهين وتلحين كمال الطويل، وقد أصبح “حليم” بعدها نجماً مكرساً، لا على صعيد الأغنية الرومانسية فقط بل في “الأغنية السياسية” التي أضعها بين قويسات لأنها تعبير فني عربي لا وجود له في الثقافة الغربية، حتى اليسارية، والوحيد الذي انتقدها، عربياً، هو شاعر أم كلثوم مأمون الشناوي عندما وصفها بأنها “هتافات وليست أغاني” في تصريح صحفي معروف.

ناصر في قلب الأغنية

كان جمال عبدالناصر في قلب الأغنية، لكأن الأغنية لا تتوفر فيها الشروط الفنية من دون ذكر الزعيم وإن غصّت سجونه باليساريين والديمقراطيين.

“ناصر واحنه كلنا حواليه.. ناصر ناصر/ وعيون الدنيا عليه.. ناصر ناصر/ والنصر بيسعى إليه.. ناصر ناصر”.

هكذا وجد الشعب المصري نفسه بعد إعلان عبدالناصر تنحّيه عن مسؤولياته الرسمية وعودته مواطناً مصرياً عادياً، فخرجت الملايين من المصريين مطالبة بعودته إلى الرئاسة وكأنها تنتظر هزيمة جديدة بقيادته.

في العراق حدث ما يشابه

اللافت أن الشاعر العراقي الراحل يوسف الصائغ كتب منتصف السبعينات، في صحيفة “الفكر الجديد” تقريظاً حماسياً للأغنية واعتبرها نموذجاً للأغنية السياسية، حسب التوصيف الدارج.

صعود عبدالحليم لم يكن، وقتها، بسبب موهبته الفنية التي لا غبار عليها، بل هي لحظة صعود النجم التي تحتضنها لحظة مقابلة هي الظرف المتاح لأمثاله، من جمهور وبيئة مهيئين لمثل هذه اللحظة، ليصبح الفنان “مغني الثورة”: الزعيم ابن العائلة الفقيرة يحتضن الفنان ابن الزقازيق، الحي الشعبي المصري، المصاب بالبلهارزيا منذ طفولته بسبب سباحته في الترعة القذرة، زائداً الصعود السريع لأبناء الفقراء في سلّم الدولة والحكومة، فبعد انقلاب يوليو ١٩٥٢ وجد الفقراء في تلك الفترة أنهم ينتمون إليها و”إن لم ينتموا” بمن فيهم كتاب وشعراء. اقترن عنف السلطة البعثية بالأغنية السياسية (الهتافات) حسب تعبير المصري مأمون الشناوي، فانطلقت هتافات مغناة تتوفر على تأثير موسيقي/تعبوي على المستمع والمشاهد، لأنها خاطبت عاطفته الوطنية لا وعيه السياسي، واستمدت الفولكلور مصدراً لأن فنانيها يدركون ما لهذا الفولكلور من تأثير عاطفي على مزاج المواطن العادي، خصوصاً أثناء الحرب العراقية الإيرانية، والأمثلة كثيرة لا تحصى (إحنه مشينا للحرب).

فيكتور جارا

قبل تلك الحرب شهد العراق نوعاً من “الأغنية السياسية” خلال ما سمي “الجبهة الوطنية القومية التقدمية” وكان الفنان التشيلي فيكتور جارا مثالاً يحتذى خصوصاً بعد مقتله على أيدي بينوشيه دكتاتور تشيلي. وهي أغنية لا تشذ عن نمط الأغاني السياسية العربية التعبوية والتضامنية.

و”الصورة اكتملت بالرواد مع ناصر وإديهم ف إديه”. وعرضها تلفزيون بغداد عام ١٩٦٦ مع لقطات تجمع نيكيتا خروشوف وجمال عبد الناصر وعبدالسلام عارف في زورق يمخر نهر النيل! “صورة” أغنية نموذجية من حيث عناصرها الفنية، وهنا يكمن خطرها: كلمات جميلة بحنجرة العندليب وألحان فنان كبير، فأين الخطر؟

المبادئ الاشتراكية

بدءاً من عام 1961 كان عبد الحليم يقدم في شهر يوليو (تموز) من كل عام أغنية وطنية على الأقل بمناسبة عيد الثورة، إضافة إلى الأغاني الوطنية التي غناها في مناسبات مختلفة. وكانت معظم هذه الأغاني ترحب بالثورة، وتؤيد مبادئها مثل الاشتراكية.
لكن بعد فترة من تطبيق “المبادئ الاشتراكية” حسب منهج عبد الناصر، يبدو أن نوعاً من عدم الرضا بدأ يسود فئة كبيرة من الشعب المصري، خصوصاً وأن كثيراً من المسؤولين استفادوا من تضخم الجهاز الإداري والبيروقراطية لمصالحهم الخاصة، ولذلك صار لزاماً أن يعي المواطن الانتماء للوطن بروح المواطنة لا بخدمة النظام الاشتراكي، الناصري.

خلت هذه الأغنية من أي ذكر للاشتراكية، برغم أنها ذكرت فئات عديدة من المجتمع كالموظفين، والمهندسين، وحفظة القرآن، رمزاً دينياً لتحالف الدين مع العسكرتاريا: “للواعظ حافظ القرآن/ للجندي الأسد اللي شايل على كتفو درع الأوطان”.

كانت هذه الأغنية هي آخر أغنية وطنية يغنيها عبد الحليم في أعياد الثورة، حيث أن هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967 قد منعت إقامة حفلات مماثلة.

ربما كان من الممكن أن تعيش هذه الأغنية لفترة طويلة لو لم يذكر فيها اسم الرئيس جمال عبد الناصر، حيث فقدت أهميتها بعد وفاته عام 1970، وأدى ذلك إلى حجب هذه الأغنية، كما أدى ذكر اسم الملك فاروق في أغنية الفن التي غناها محمد عبد الوهاب قبل حوالي عقدين من الزمن إلى حجب تلك الأغنية.

هذا النوع من الأغاني يجد في الهياج الجماهيري مناخاً حاضناً للنمو والازدهار مقابل فن مهمش ومقموع مثل تجربة الشيخ إمام الفنان الذي يسكن غرفة فوق السطوح ولا يجد قوت يومه، لكن هذا لا يعني أن أغاني الشيخ إمام بمنجى من سطوة السياسة والآيديولوجيا، بدليل موتها السريري اليوم ولم تعد تعني ما تعنيه وقت انتشارها.

ويعني، أيضاً، أن أغاني حليم الرومانسية ما زالت خالدة وتحظى بالإعجاب الجماهيري، حتى اليوم، بينما أغنياته الوطنية لم تعد صالحة للعمل.