“أنشد.. أنشد”..ثمّ أكملْ أنتَ

891

د.سلمان كيوش/

في لحظة اكتئاب كالتي يمرُّ بها محكومٌ بالإعدام سمعتُ ياس خضر في واحدةٍ من أغانيه. أدرتُ زرَّ مسجلي القديم فانبعثَ صوتُ كمان أوّلاً. تذكّرتُكم فوراً وكتبتُ على ورقة بجانبي: إياكم أن تسمعوا هذه الأغنية في الظلام لأنها ستحيلكم إلى رماد، لأنها (أي الأغنية) تعرف كيف تؤلّب الظلام ضدّكم فتغدون ظلمةً على ظلمة كما غدوتُ.

أنا مثلكم، أشبهكم كثيراً في انسحاقي أمام أغنية. لذتي المازوشيّة تنتصر عليّ بسهولة على قدر ما بالأغنية من اكتئاب. طبعٌ قديم موروث لا ذنبَ لي فيه منذ أَلفتُ وعورةَ العيش والموتَ المجانيّ في بلدٍ أكبر ما فيه مقبرة. آثرتُ بعد أن شظّتني الأغنية أن أتلو عليكم بياناً ختامياً كتبتُه بدمعي الأكثر نقاءً من دمي وأقلّ كثافة منه، فكتبتُ:

الكمان الذي تبدأ به أغنية «أنشد… أنشد» يشبه الكلمات الموجزة التي تُتلى عند رأس المحتضر، هو عديلةٌ منغّمةٌ أو تلقينٌ لترصين الموتى وتهيِئتهم لخطوبِ منكر ونكير ووحشة القبر. يُشعرك الكمان أن شرايين القلب التاجيّة قد تقطّعتْ بفعلِ فاعل لا تدري من هو، كأنّها لسانٌ أراد أن يقول كلمته قبل أن يُقطع. ثمّ يطلُّ عليك ياس خضر برصيدِ حزنٍ يضاهي به فجائعه المنتظرَة كلّها ليخبرك بأنه ينشد، وتستمرّ الأغنية. وكتبتُ:

إذا كانت الآه والحسرة، اللتان تكتنزهما بُطينات قلبك بطريقة ساديّة، أو الزفرة التي تشبه حرقة الجالي الحامضة، قيدَ التشكّل في قلبك فلا تدنُ من ياس خضر في هذه الأغنية، لأنك حتماً ستفقد القدرة الضروريّة على تعيين الحدود الفاصلة بين الّلذة والألم. فأنا وأنتَ نعرفُ أن الأغنية، أيّة أغنية، ابتداعٌ إنسانيّ لترويض الحزن أو لمفاقمة السرور الشحيح، أو لمنع الدمع من أن يغدو سمّاً زعافاً، رغبةً منّا في رؤية العالم على حقيقته، أو للحدّ من فوضاه أو قبحه. أما «أنشد… أنشد» فلا تؤدّي غير مهمّة واحدة يعرفها الموغلون في ورم قلوبهم، ورمهم الإنساني نتيجةً لفساد الناس أو المدن، هي تجميدٌ للحزن وتعليقه في الهواء ليراه ويسمعه الذين كفّوا للتو عن ثغيب هستيري على شيء ثمين فقدوه في زحمةِ انشغالهم بما هو أقلُّ ثمناً وأهميةً.. أغنية تسرِّع وتائر النبض نحو فعلٍ استثنائيٍّ كالذي يفكّر به مَن يقف على مقصلة. سمعتُها فنخيت اليمّه كلّهم ليوقفوا زحف الزهايمر لأني موقن أن لا معنى منّي ومن ذاكرتي من «دونها». أغنية وصلتْ بي إلى مشارف السوادين مع أن رَبعي يجزمون أني عاقل جداً. نعم، صحيح أني شعرتُ، بعد سماعها، أني أفضلُ، بطريقةٍ ما، ممن حولي لأني أستطيع تبضيعَ أعضائي المهمّة بشفرة «أنشد… أنشد» الباشطة، لكنّي لستُ موقناً من أني سأعود لسابق عهدي مع الحياة قبل الشروع بسماعها. بحثتُ وأنا أسمعُ الأغنية عن الإبرة في لوري التبن برغم يقيني أني لن أجدها، ومع هذا فالّلذة في اليأسِ الذي تبثّه الأغنية لا يختلفُ كثيراً عن أملٍ رماديّ هجين في العثور على ما لا أعرف مهما بدا باهظاً. قرّبتني «أنشد.. أنشد» من عرج السواحل، فألفيتني «معها»، أحتضنُ «كفّيها»، وأطيلُ النظر في «شفتيها» هامّاً بامتصاص رحيق الخلود اليقطر منهما. أغنية تغور إلى النخاع فتُرعشُه وتتسيّدُ فوقه كجوريّة تُزيّنُ شعراً نديّاً لامرأة حبلى من حبيبها. كان هذا ما دامت البكرة تدور في مسجّلي القديم. وكتبتُ:

خاض لحن الأغنية كلَّ الحروب قبل أن يستقرَّ في أذنيك. لحنٌ بجلدٍ بقّعتْه الشظايا ورقّطَه أنينُ الحالمين بمغادرة حقول الألغام والأرض الحرام والعودة إلى بيتٍ يظلّله الغيمُ وتعطّ منه رائحةُ بخورٍ وطعامٍ تعدّه امرأة تحبّك. أغنية تجبرك على ترديد اللازمة الخالدة: الله كريم، ليس لأنك رأيتَ الله واضحاً فيها حسب، بل لأنك غدوتَ بعدها مدوهناً، لا تدري ما الذي يجدر بك فعله أو قوله. أغنية أجبرتني على التظاهر بموتٍ قديم كي أُبعد عن جلدي خشونةَ الكفن أو نعومته المفرطة لأنّها ذكّرتني بخيبةٍ راسخةٍ حين مرّتْ حبيبتي بجانبي ذات صبح ولم تسلّم. أحسنتُ بعد سماعها، أوّل مرّة، التفكيرَ بالانتحارِ، وأحسنتُ تأجيله أيضاً طمعاً بيوم جميل نبّأتني بقدومه عرّافةٌ جنوبيّة بأسنان ذهبيّة. قالت: ستلتقيها، وسيصفعُ وجهُها قلبَك مرّتين. وكتبتُ متحسراً:

أغنية أعادتني إلى حقول الشلب التي دُفن سرّي فيها، ووَشمتْ روحي برسوم لأنصافِ قطعٍ خلفيّةٍ في أزقّة ضيّقة سكنتُها وأنا أفكّر بالشماعيّة أكثر مما فكرتُ بشيءٍ آخر، ذلك لأني، كما قالت العرّافة، أحببتُها فضمنتُ جمالي، غير أني سأمضي الباقي من عمري بنصف عقل ونصف بوصلة. أغنية أعانتني على التأقلم مع الخيبات بسهولة. وبرغم أني على أهبة الهجرة دائماً جعلتني الأغنية أُكثرُ من السمنت في الخبطات طمعاً بمزيد من الصلابةِ للسقوف التي تظلّلني. أغنية للمواسم كلّها، لاسيما مواسم الفزع والطَرْقِ على أبواب الجوامع ليلاً لتسلّم توابيت نريدها متينةً وجميلةً. أغنية يردّدها الجنّازة عادةً ليوقفوا انتحابهم فتنوء هي بمهمّة استدرار الدمع على مصيرنا الترابيّ. وختمتُ:

وأنتم تسمعون الأغنية، لا تراقبوا الهرم السريع الذي يدبُّ على جلودكم لأني أعرف أنكم ما زلتم صبياناً، لا تعيروه آذانكم. آزروا الباكي بحرقة بـ»أنشد… أنشد».

صديقي الحبيب: اسمعْ الأغنية، راقبْ حركة الوجع الحلزونيّة فيها عن كثب، ثمَّ اتصلْ بي كي نبكي معاً..