الأغنية الخليجية مهـــــــــــارة ومــــــــال وفيــــــر

103

عادل مكي/
تجربة الشعور الموسيقي الأخاذ عبر الذاكرة، والانطلاق بالغناء ونقله من حيّز الحاجة الى التعبير الحسي تاريخياً، هما أمران ليسا بالهينين، ويحتاجان الى البحث الدقيق عن مصدر الإلهام وتطويعه. لذلك ربما بقي الغناء الخليجي متأخراً عن أسلافه من الغناء العربي، كالعراقي والمصري واليمني، عقوداً طويلة بسبب العوامل التاريخية والجغرافية التي جعلت منه فقيراً إزاء الهيمنة الكبيرة التي حظيت بها دول الجوار العربي في سوح الغناء والألحان التي مازالت خالدة وكأنها أيقونات لن يكررها أو يجود بها الزمان يوماً ما.
كان الخليج العربي ودوله قبل اكتشاف النفط فقيراً حتى في المتوارث، لأنها دول حديثة الوجود قياساً بالأمم المجاورة، فتلك الدول الخليجية كان همّ مواطنيها البحث عن لقمة العيش في أعماق البحر. ورغم بداوتها هنا أو هناك فإنها كذلك لم تكن أمة عريقة في الحسابات التقليدية للحضارات، مثل الحضارات السومرية والفرعونية واليمنية العدنية، استثني من ذلك المملكة العربية السعودية تاريخياً، التي كانت زاخرة بالأدب والخطابة واللغة والأعراق والأنساب، لكنها لم تعِر أية أهمية للغناء، باعتباره محرماً دينياً منذ سالف الأزمان، وذلك لوجود الكعبة المشرفة وقبر النبي الأكرم فيها. وقد كانت العربية السعودية محط ترحال قوافل الحجيج، لكن جل اهتمامها كان في سماع وكتابة المنظوم من الشعر العربي المقفى بأشكاله وألوانه المتعددة، غير آبهة بأساليب الغناء المختلفة.
ومنذ أربعينيات القرن الماضي، استطاعت منطقة الخليج إظهار تراثٍ موسيقي فريد، وخصوصية غنائية باتت تعرف باللون الخليجي، تكاد تكون متشابهة موسيقياً وشعرياً ولحنياً، وحتى روحياً، مثل قطر والسعودية والإمارات وعمان والبحرين والكويت، بحيث تجد صعوبة في فصل موسيقى بلدٍ عن آخر بسبب التلاصق جنب الى جنب جغرافياً، إذ إن هذا التقارب الموسيقي يعود إلى التداخل الثقافي على امتداد ما يزيد عن خمسة عقود من الزمن، أنتجت الموسيقى الخليجية خلالها مقطوعات وأغاني وأعمالاً هامة حظيت بقبول واسع في عموم العالم العربي.
لقد لعب فن الغناء البحري -ومايزال- دوراً جوهرياً وأساسياً في التمهيد للفن الخليجي والأغنية الخليجية، وساعد على انتشارهما بما يتميز به من أنه يغنى جماعياً، ويطلق عليه البحارة اسم «شيلة»، التي تغنى عادة أثناء العمل في نقل الأمتعة أو تحريك السفينة، ولاسيما عندما تغوص في الرمال والطين لبث الهمّة وروح التعاون. لقد افتقرت مناطق الخليج بشكل عام الى وجود صنّاع مهرة للأغنية، كالشعراء والموسيقيين والمطربين، وقد استقبلت تلك الدول بعد انتعاشها معظم مطربي دول الجوار، كالعراق واليمن، ثم جاءت إليها أصوات وافدة منحتها جنسيتها وأغدقت عليها بكل سخاء، كعوامل مهمة للنجاح كي يصبح لها دور مميز، كأصوات عبد الكريم عبد القادر ورباب ونوال (عراقيي الأصول)، الذين حققوا نجاحات فنية مميزة.
هذا الافتقار الفني جعل كثيراً مطربيها، ولاسيما في الستينيات والسبعينيات، كعوض دوخي أن يحقق ذاته في إعادة أغاني أم كلثوم، ولكن بطريقته وأسلوبه الخاص، لأنه لم يجد ضالته عند غالبية الشعراء والملحنين، فذهب وركب العميق الصعب فحقق ما أراد، كذلك الحال مع طلال مداح ومحمد عبده اللذين يرجع نسبهما الى أصول حضرمية، متأثرين بموسيقى وأسلوب محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وكمال الطويل، ما جعل من موسيقاهم علامة كبيرة في الغناء الخليجي، مستفيدين منها ومحققين ما كانوا يصبون إليه.
تقسم الموسيقى الخليجية إلى ثلاثة اقسام هي: الفن الموسيقي المستمد من البحر، والفن الموسيقي المستمد من البر، والفن الموسيقي الإقليمي الذي تمتد جذوره إلى خارج منطقة الخليج، وقد تأثر الغناء الخليجي بالإيقاعات (الهندية والإفريقية والإيرانية) مثل استعمال (الطبول) والمراوس (والطيران) والدفوف والزناجير و(الدنابك) الكبيرة والصغيرة. جدير بالذكر أن جذور هذا الفن تمتد إلى خارج منطقة الخليج متأثرة بثقافات شرق إفريقيا وبلاد فارس. ثم انصهر هذا الفن بمرور الزمن في الثقافة الإقليمية لمنطقة الخليج. وبحسب الدراسات العديدة التي اطلعت عليها، ثبت بالدليل القاطع أن كثيراً من المطربين الخليجيين هم من أصول إفريقية، ولاسيما النساء مثل: عايشة المرطة في الكويت، وموزة سعيد في الإمارات، وموزة خميس في عُمان، وعتاب في المملكة العربية السعودية. كلّ ذلك لم يسهم في أن تثبت الموسيقى الخليجية وجودها وحسب، بل زاد أيضاً من بريقها وسيرها بخطواتٍ ثابتة لتحظى بحضورٍ وقبولٍ واسعين لدى أبناء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إذن، فإن الغناء في تلك الدول مر بمراحل متعددة، تصاهر فيها مع قوالب الغناء الزاحفة إليه، التي شُذبت أخيراً على أيدي ملحنين وشعراء قفزوا بالأغنية الخليجية الى مصاف متقدمة، كما ساعدهم الجانب التقني الحديث، ولاسيما التسجيل في أحدث ستوديوهات مصر العربية لموزعيها وعازفيها المهرة، فخرجت معظم الأغاني الخليجية بتوزيع وتسجيل صوتي مبهرين ومميزين، إذ كانت مصر هي الحاضنة للمواهب الخليجية، وساعدتها على الانتشار سريعاً.
لقد وظف أهل الخليج مالاً وفيراً لكي تلتحق أغانيهم بالركب العربي، ومع أن الأمر كان متأخراً تاريخياً، لكن الفنان الخليجي أثبت مقدرته العالية في لفت الانتباه إليه، ولاسيما بعد ظهور عبد الله رويشد ونبيل شعيل وحسين الجسمي وأحلام وعبد المجيد عبد الله وآخرين.
إذن، بالمحصلة، فقد نجحت دول الخليج العربي في مساعيها الفنية، ولفتت الانتباه إليها بفعل التخطيط الناجح والمال الوفير، ليس في مجال الغناء فحسب، بل في شتى مجالات الإبداع والجمال.