التمويل الذاتي أهم أسباب انحسارها صالات الفن التشكيلي بين الإهمال والاندثار

1٬031

استطلاع : زياد جسام /

لصالات العرض الفنية أهمية كبيرة للفنانين التشكيليين وللمتذوقين وعشاق الأعمال الفنية، ناهيك عن قيمتها الكبيرة في إثراء الساحة الفنية والارتقاء بالذائقة البصرية، ولا شك في أن انحسار هذه القاعات يعيق مسيرة الفن التشكيلي عامة، اذ يتعذر على الفنان في حالة عدم وجودها تسويق أعماله الإبداعية من الناحيتين المادية والمعنوية.
هنا ارتأت “مجلة الشبكة” أن تجري استطلاعاً عن هذا الموضوع للتعرف على أسباب انحسار القاعات وكيفية معالجتها، فكانت لنا وقفات مع بعض المعنيين بذلك.
الناقد التشكيلي (خالد خضير الصالحي) حدثنا قائلاً: إن للفن قيمة يومية وقيمة تخلقها المضاربات، وهما قيمتان لا يمكن الفصل بينهما، ويشكلان معاً ما يدعو إلى أن نعدّ الفن سلعة تخضع لقوانين السوق الفنية، فابتداء من عصر النهضة أصبح الفن سلعة يمكن شراؤها، والرسم مهنةً يحترفها الفنان للكسب المادي.
وأكد الصالحي أن انتاج السلعة الثقافية يستلزم عملية متكاملة، أطرافها السلعة المنتجة والمنتج والمستهلك والوسط، وأن إغلاق القاعات الفنية في العراق، أو انحسارها، هو نتيجة منطقية لكساد سوق الفن الذي صار سلعة بائرة وضعيفة في سوق التداول، حالها لا يشجع على الاستثمار فيها. وعليه، سيكون منتج العمل الفني (الفنان) هو الخاسر الأكبر، وسيضطر الفنانون إلى الهجرة الجماعية كما يحصل الآن.
أما عن اسباب الخلل، فإن الأطراف الأربعة تتبادل الأدوار بينها، أسباباً ونتائج، في الوقت ذاته. أما عن الحلول فيقول: لابد من تغييرات في الواقع العراقي بدءاً من أولى مراحل التعليم مروراً بكل ما ذكرته، وقتذاك ستتوفر أجواء تنمو فيها الثقافة بشكل سويّ.
ازدهار الفن
أما نائب رئيس جمعية التشكيليين الفنان (حسن إبراهيم) فذكر في حديثه الفترة التي ازدهرت فيها القاعات الفنية في التسعينيات إذ قال: شهدت بغداد وقتها تحولاً كبيراً في الحراك التشكيلي على مستوى ازدياد قاعات العرض وتنوعها، وقد أسهم ذلك في تكوين ملامح جدية كان من شأنها إمداد المشهد التشكيلي بأسباب الحضور والتفاعل والاستمرار.
ويؤكد الفنان حسن إبراهيم أن مسألة تطوير قاعات العرض وما يتعلق بالفن التشكيلي تعود إلى دعم المؤسسات الحكومية وغيرها، على أنه جزء من ستراتيجية دعم الثقافة والفنون التي تمثل تطور الشعوب.
ومن المعروف أن العلاقة تبادلية بين الفنان والقاعات الفنية، الحكومية والأهلية، لإيجاد تفاعل وتواصل دائمين في الوسط الثقافي والمهتمين والمقتنين للأعمال الفنية، وأهمية تقديم الأعمال الفنية التي من شأنها إثراء المشهد الثقافي بقيم جمالية وتسويقها وإدارتها، والتعريف بمجاميع كبيرة من الأعمال بأسهل الطرق.
إلا أن الانحسار الذي أصاب القاعات وإغلاقها أديا إلى انكماش عافية المشهد التشكيلي، ما غيّب العلاقة التفاعلية بين الفنان والقاعات الفنية والزائرين والمقتنين بنحو نهائي.

ربح وخسارة
الفنان (حسن نصّار)، مدير قاعة (مدارات) للفنون التشكيلية، تحدث عن جانبي الربح والخسارة المادية على أنهما كُلفتا البقاء والاستمرار، وقال: مهما بلغت أهمية قاعات العروض الفنية الخاصة في طرحها للتجارب والرؤى الفنية المتنوعة ودورها الكبير في تكوين ملامح الواقع الجمالي والثقافي للمجتمع، بما تنظمه من نشاطات متنوعة واستقطاب للنخبة المتنورة، إلا أنها بطبيعتها مشاريع ربحية يجب أن تتوفر فيها مقومات البقاء والاستمرار والمنافسة كافة كأي مشروع استثماري آخر، ومن أهم هذه المقومات القدرة على إدارة الموارد، وجودة المنتج (السلعة/ الخدمة)، ثم تحقيق العائدات وإدارتها، وغيرها. وقبل ذلك هنالك كُلفتا البقاء والاستمرار، كالإيجارات وأجور العاملين والنفقات للأمور الاستهلاكية الروتينية والخدمات. ثم يأتي بعد ذلك تقييم حاجة (المستهلك) النموذجي إلى نوع (السلعة/ الخدمة) المقدمة.
وفي خضم معمعة الضياع والتخبط التي تسبب بها سوء التخطيط وحساب الأولويات وهدر الأموال والطاقات، تتراجع أهمية القاعات وتنخفض أهمية ما تطرحه للمستهلك من نتاجات إلى نسب ضئيلة تكاد لا تذكر، إذ إن المستهلك باتت عنده أولويات أشد اقتراباً لمتطلبات البقاء، لأن الفنون بطبيعتها تزدهر في ذروة ازدهار المجتمعات، فهي ثمرة نموها الصحي وتقدمها.
وفي أبسط مراجعة لمعايير لعرض والطلب، نرى جلياً أسباب أفول كثير من القاعات الخاصة وتخلي أصحابها عن مشاريعهم، ثم تحول تلك الأمكنة إلى مزاولة نشاطات أخرى أكثر جدوى.
وعن الجانب الإنساني في وجود قاعات الفن يقول نصّار: إن هذه المؤسسات تكافح الهمجية والاستبداد وتساعد في بناء الأخلاق العالية في المجتمع وتعزيزها، فهي أماكن لبث القيم الخيِّرة، وإن لوجودها ضرورات أساسية لفتح الآفاق النيِّرة وخلق روح التفاؤل والإحساس بالجدوى.
أما عن الحلول فيرى نصّار أن على الدولة أن تقر بضرورة دعم هذه القطاعات والسير باتجاه تشريع قانون لرعايتها وتنميتها وحمايتها من الزوال، وهذا ليس بالأمر العسير، فلدينا قوانين سابقة تحمي الأبنية التراثية والحِرَف والمهن الشعبية، إذ يمكن وضع تخصيصات مالية مناسبة لهذا الموضوع، أو أن يصار إلى تأسيس صندوق لدعم الفنون والثقافة من قبل جهات غير حكومية مهتمة.

تأثيرات حكومية
فيما يعتقد الأستاذ (بارع جبار)، مدير (معهد وملتقى عناوين)، أن وضع البلد المربك سياسياً واقتصادياً قد يكون هو سبب انحسار القاعات الفنية، إذ يرى أن الشارع العراقي يتعامل مع القاعات الفنية، في ظروف كالتي نعيشها، على أنها شيء ثانوي وشكلي لوجود احتياجات أهم للمواطن (الخدمات والأمن والوضع الاقتصادي … الخ ).
ويعتقد بارع جبار أن الحلول ربما تكمن في دعم المنظمات والمؤسسات غير الحكومية، محلية كانت أم دولية، لتبعد القاعات والنشاطات الفنية عن الشروط الحكومية وتأثيراتها. كما تحدث عن قاعة (عناوين) وقال: هي من أواخر القاعات التي افتتحت في بغداد وبجهود شخصية من مجموعة من الأشخاص وبدعم شخصي كبادرة منهم للمساعدة في تنشيط الحركة الفنية، ونجحت في إقامة أكثر من خمسة معارض فنية، وهي مازالت تقاوم الظروف الصعبة لكي تستمر، وتحتاج إلى دعم معنوي على أقل تقدير من الجهات المسؤولة والمشرفة على نشاطات مماثلة، وإلا سيكون مصيرها مصير المشاريع السابقة التي بدأت متفائلة ثم انتهت بالغلق.

عبء مادي
الفنانة (مينا الحلو)، بصفتها مديرة لمركز (أوج بغداد) الثقافي الذي أغلق للأسباب نفسها التي دعت لإغلاق قاعات ومراكز ثقافية كثيرة، حدثتنا عن هذا المركز الذي استمر ثلاث سنوات، وهو في الحقيقة لم يكن مجرد قاعة للعرض التشكيلي فقط بل تحمّل القائمون عليه مسؤولية ديمومة كل أشكال الفن في العراق وتطويرها، إذ أسسه الأستاذ (فيصل القره غولي) ليكون بيتاً عراقياً مميزاً يحتضن الفنانين من عموم العراق.
وفي هذا المركز كانت هناك (قاعة ليلى العطار) للعروض التشكيلية المتنوعة، إذ تؤكد الحلو أنها أسِست من أجل إنجاح المسيرة الفنية في العراق وليس للربح المادي إطلاقاً، وهذا يؤكده نشاطنا الذي استمر طوال ثلاث سنوات دون أي ربح أو أي تعامل مادي مع الفنانين جميعاً.
تقول مينا الحلو: إن إغلاق المركز، للأسف الشديد، جاء اضطراراً لأسباب مادية بحتة. وتضيف: لم يكن للمال مكان في خططنا، فأصبح إيجار المركز عبئاً علينا ولم نفكر بفتح كافتيريا مثلاً لدعم المشروع مادياً، علماً أنه كانت هناك مبادرة مشكورة من وزير الثقافة السابق (فرياد رواندزي) لدعم المركز مادياً، لكن الدعم المخصص لم يكن كافياً، وأرى أن تدعم وزارة الثقافة المراكز الثقافية الجادة والرصينة بالتمويل أو بتوفير المكان أو المقرات للمراكز، أو أن تدعم بعض البنوك أو المؤسسات الخاصة مشاريع كهذه كما هو الحال في أغلب دول العالم.