الجراح والفنان علاء بشير لـ”الشبكة”: الطب ساعدني كثيراً على الغور في معجزة خلق الإنسان

714

 خضير الزيدي /

غرفَ كثيراً مما تركه سكان وادي الرافدين القدامى من آثار ترمز لبحثهم في علاقة الإنسان مع القوة الغيبية الخارجة عن إدراكه. استلهم أفكار لوحاته من وجود الإنسان ودوره في الكون، وأبهره ما وراء هذا الخلق العظيم، ومازال الإنسان هو الغاية الأهم في أعماله الفنية.

أحدث جدلاً في الأوساط التشكيلية بعد أن وظّف طائر الغراب في رسوماته، فبينما يراه الآخرون طائر شؤم، يرى هو أن مساحة الفن منفتحة على توظيف أكثر من رمز يحمّله دلالته وسيمياءه.. مع علاء بشير، الجراح والفنان التشكيلي، نغوص في ذكرياته وأفكاره التي طبعت أعماله الفنية عبر هذا الحوار:
الغراب الذكي

* ما أهمية رمز الغراب وتأكيدك المتواصل عليه في أعمالك الفنية؟!

– علمياً وتاريخياً يتميز الغراب بمستوى ذكاء مرتفع مقارنة مع غيره من الطيور. وذكر الغراب في معظم قصص المجتمعات البدائية وغيرها. وليس هيناً أن يذكر الله تعالى الغراب بالاسم ليكون أول معلم للإنسان وان يكون أيضا الشاهد الوحيد والأول على أول جريمة يقترفها الإنسان في مسيرة وجودة كما ذكر في سورة المائدة: “فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه، قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي، فأصبح من النادمين.” كما ذكر الغراب ١٢ مرة في الإنجيل. والأساطير والمعتقدات القديمة تزخر بقصص يكون الغراب رمزاً مهماً فيها. في أعمالي الفنية تمدد رمز الغراب كثيراً خارج رمزيته التي في الأساطير القديمة والمعتقدات الأخرى ليكون شاهداً وموثقاً أبدياً لفعل الإنسان ونواياه الخفيّة أيضاً.
المدرسة السريالية

* دعني أتساءل معك عن سر اهتمامك المتزايد بوجود مدرسة سريالية (فوق الواقعية) تتحمل تعدد القراءات البصرية؟

– أنا لم أمد يدي لحركة السريالية الأوروبية ولم أتأثر بها رغم إعجابي بمنجزاتها، إنما غرفت كثيراً مما تركه سكان وادي الرافدين القدامى من آثار ترمز لبحثهم في علاقة الإنسان مع القوة الغيبية الخارجة عن إدراكه، فابدعوا الأساطير المذهلة المتمثّلة في عشتار ومردوخ والثور المجنح وملحمة كلكامش. ما زلت أبحث في أسئلتهم عن هذا الكون السحيق ووجود الإنسان ودوره فيه ويبهرني ما وراء هذا الخلق العظيم. مازال الانسان هو الأهم في أعمالي الفنية، أبحث بصرياً في وجوده المادي المرئي وغير المرئي وكذلك وجوده غير المادي وغير المدرك مستعملاً ما يشير إليه أو الى أثره.

جماعة الانطباعيين

* انتميت في بداية مشوارك الفني إلى جماعة الانطباعيين، هل تحفل ذاكرتك بوصايا حافظ الدروبي، وما الذي اختلف في الجماعة أسلوبياً لو تمت المقارنة مع الجماعات الأخرى؟

– دعاني صديقي العزيز مظفر النواب الى جماعة الانطباعيين العراقيين في العام ١٩٥٩ وكان يرأسها الفنان الكبير الرائد حافظ الدروبي. كان تجمعاً لفنانين أصدقاء أكثر مما هو تجمع أسلوب معين. كانت الحوارات مع حافظ الدروبي مهمة للغاية حول المهارة في العمل الفني ومتطلباته، وما كان يعترض على الأسلوب الذي يختاره الفنان، فقد كان يحترم أسلوب التعبير للفنان طالما التزم بمتطلبات إنجازه، كان بحق فناناً كبيراً، وهذا ما شجعني أكثر للبحث في ما وراء ما أبصره بالعين، إنما ببصيرتي.

*هل تعد مرحلة التسعينات وذهابك باتجاه النحت على طين الفخار، واهتمامك بالتفاصيل التشريحية لجسم الإنسان، مشروعاً منفصلاً عن كونك رساماً، أم أن هناك مساحة لالتقاء الرسم والنحت معاً ليكملا توجهاتك الجمالية ورؤيتك الفنية؟

– في بداية التسعينات من القرن الماضي، كنت قد شاهدت عن قرب مئات الجثث يغطيها التراب وعيونها مفتوحة الى ما لا نهايه، ذكرتني بالتماثيل السومرية المصنوعة من الطين المفخور. ولأن الإنسان يصبح تراباً أخيراً، قررت أن أعمل معرضاً لتماثيل من الطين المفخور، وكان طين نهر دجلة وقليل من نهر الفرات أساسها. استعملت ستوديو المرحومة الفنانة سهام السعودي لهذا الغرض، وكانت في غاية الكرم حيث ساعدتني هي وزوجها الدكتور علي السامرائي في تحقيق ذلك، فكان معرض «أفكار من تراب» الذي عرضت فيه ٨٥ عملاً من الطين المفخور، ولطالما استهواني، مع أن لي أعمالاً بالبرونز والخشب والحجر، لكنما الطين المفخور كان أقربهم لنفسي.
الجراحة التقويمية

*الى أي حد تتأثر العراقة بين لوحاتك ومنحوتاتك وبين مهنتك في الجراحة التقويمية؟

– كنت أرسم لسنين طوال قبل أن أذهب لكلية الطب. الرسم أقرب لنفسي من الطب دون تردد. لكن الطب ساعدني كثيراً على الغور في معجزة خلق الإنسان وإدراك عظمة خلقه. فالله تعالى ساوى خلق الكون بخلق الإنسان. في سورة «فصّلت» : «سنريهم آياتِنَا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.» لذلك كان الإنسان ومازال هو الذي يذهلني خلقه، المدرك وغير المدرك، هو المحور الأهم في أعمالي الفنية ومن خلاله أتدبر عظمة الخالق العظيم.

*هل أن ما يحدث اليوم من انكسار وتدمير لمنظومة الحياة اليومية العراقية قد يستوحيك لإعادة نصب (الصرخة)؟ بمعنى هل ثمة تشابه لواقع ملموس؟

– شاهدت جثث النساء والأطفال والرجال المتفحمة حينما كان رجال الإطفاء ينقلونها الى خارج ملجأ العامرية الذي قصفه الطيران العسكري الأميركي فجر ١٣ شباط ١٩٩١، وكنت أسمع صراخ أهل وأمهات الشهداء، فكان نصب ملجأ العامرية. اليوم أصبحت صرخة نصب الصرخة أعلى وأشمل مرارة وأبدية.