الحرب.. الوحي الأعظم للفنان أوتو ديكس

946

رؤيا سعد /

“لا نستطيع أن نتخيّل كم أن الحرب مخيفة ومرعبة، وكيف تصبح شيئاً عاديّاً، لا يمكننا أن نفهم، لا نستطيع التخيُّل”.

سوزان سونتاج

شكّلت الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) الوحي الأعظم في استلهام الأفكار بالنسبة لفناني القرن العشرين وأصبحت حينها أكبر منعطف في مسيرة الفن الأوروبي وتطوره، ومع تعاظم الإحساس بالخراب وتولد مشاعر الخوف بسبب العنف وهيمنة السلطة المسؤولة عن ظهور حركات طليعية في مقدّمتها تيارات تشكيلية عديدة مثل تيار الواقعية السحرية والتعبيرية الجديدة التي بدأت من برلين تحديداً.
بدت تجربة الفنان الألماني أوتو ديكس (1891 – 1969) في هذا السياق مختلفة عن التيارين الأخيرين، حيث أراد أن يعيش الحرب نفسها كنوع متطرّف وغير عادٍ من الحياة والواقع ليعكسها على تجربته، وهو الذي انتقل إلى الجبهة بدا “من فرنسا وهولندا وروسيا وكان غزير الإنتاج حينها، لكنَّه لم يعد يعرف أين يخفي تلك الأعمال حينها من النازيين .
كان مؤمنا إيمانا تامّا أن ما لم يستطع تغييره في الواقع يحاول إنجازه على أسطح التكوين، باعتبار ذاك السطح هو المساحة البيضاء والوجه الناصع للحياة، فهو بمقدوره أن يخُطّ مسارها كما يريد، بخلاف ما كان يفعله من قبل باعتبار ذاك السطح انعكاساً للواقع. في إعلاء ذاته وفرادته وشخصيته التي استهلكتها الحروب، فمن المرجّح كان يمتلك قناعاته الخاصّة في إمكانياته لخلق حيوات وأفكار داخل قلب العمل، فالفنان ليس انعكاساً للواقع الذي يناقضه والذي يعجز عن تغييره.
أدرك أوتو ديكس أنَّ بإمكانه أن يكون فنه هو مبحثاً عن ذاته ، وعن القناعات واليقين المفقود في كلّ مفاصل الحياة من السلطة إلى المجتمع ثم الدين ليتحوّل بعد ذلك فنه إلى أرض حرّة للتعبير وعكس الواقع الذي يعيش، لم تعكس أعماله التشكيلية عنف الحرب وويلاتها فقط، بل عكست حياة الناس والأفراد الهامشية وتداعيات الحرب ما بعد انتهائها، مثل الجنود الذين أصيبوا بإعاقات مستديمة والنساء التي تداعت حالتهن المادية ليعملن في بيوت الدعارة، مضطرات والمتسكعين من الشباب العاطلين عن العمل إضافة إلى ملامح الاستياء على وجوه العامة من الناس، حيث بقيت تداعيات تلك المرحلة واضحة في رسوماته حتى منتصف عشرينيات القرن الماضي. لقد رسم أوتو ديكس ما يقارب ٦٠٠ لوحة تصوّر تلك المرحلة من الحرب العالمية التي صوّرها بالألوان المحايدة (الأسود والأبيض) ما عدا عدد من اللوحات الملونة التي لا تتجاوز أصابع اليد، أغلب تلك الأعمال كانت تبدو ساخرة (سخرية سوداء) وتظهر تلك السخرية جلية على ملامح شخوص اللوحة. غير أنّ بعض أعماله الحفرية كانت تحمل طابعا مأساويا، سواء عبر مضامينها أو حتى عناوينها، مثل لوحة جثّة الأسلاك الشائكة والمتاريس والجنازة (المأتم) وفِي الغالب تحتمل رؤى كابوسية صادمة تجاه تداعيات حرب ذهب ضحيتها الملايين من البشر .