الذي يعلمك التسامح والمحبة بلا شعارات

141

بغداد / حميد قاسم/
حين جاء كوكب حمزة بصحبة الفتى رياض أحمد إلى مقهى الميثاق، سبقته أغنية (يا نجمة) التي تلتها (أفيش) و(سورة) و(محطات)..
كان ذلك مستهل السبعينيات، حين لم يكن أمام الفتى المتحمس في السياسة والشعر والغناء – الذي هو أنا- سوى أن يصغي منصتاً للكبار الذين وجد نفسه بينهم: شاكر السماوي، وجمعة الحلفي، وعريان السيد خلف، وعبد الله صخي، وعواد ناصر، وفاضل الربيعي، وكاظم الحميري، فضلاً عن أقرانه غازي الفهد، وكريم العراقي، وفالح حسون الدراجي. كان ذلك أول تماس مع مشهور له أغنية في التلفزيون، وكان ذلك مثيراً ومشوقاً. فجأة قال ذلك الشاب الممشوق بشعره الأسود الطويل وصوته الأجش: منو يوديني لبيت كاظم إسماعيل الكاطع؟

ولأن كريم العراقي كان قد غادرنا قبل قليل، لم يكن هناك من يرشحه فاضل الربيعي سواي لهذه المهمة، هذه اللحظة كانت التماس الأول مع كوكب حمزة في ذلك اليوم العاشورائي المكتظ بالرايات ومراثي حمزة الصغير وجاسم النويني وياسين الرميثي والمواكب المجللة بالسواد طوال الطريق من شارع الداخل حتى الگيارة.
مرة أهداني سعدون جابر (صديق أخي الراحل سلطان) كاسيتاً لأغاني لحنها كوكب على العود، سيغنيها سعدون لاحقاً، كتب أغلبها أبو سرحان: الگنطرة، خيوه بنت الديرة، مكاتيب، وسواها. سيكون هذا الشريط الممغنط مع كاسيت آخر لقصيدة (حسن الشموس) بصوت مظفر النواب، وآخر سجله كوكب في رعاية الشباب بالوزيرية قبل سفره، أثمن ما أتباهى به على أترابي زملاء الدراسة وزملاء المغامرة المتهيبة والجسورة أيضاً في الشعر والسياسة، التي وجدنا أنفسنا في عين عاصفتها فجأة.. ويوماً بعد يوم صار كوكب صديقي أنا، التقيه في بيته المستأجر في حي الأمانة المحاذي لقناة الجيش، أو في قسم رعاية الشباب بجامعة بغداد في الوزيرية، وفي نادي جمعية الموسيقيين وسواها من الأماكن، حيث صدح صوته بأغنيات جديدة علينا لعل أقربها إلى نفسي: يا أطفال كل العالم ياحلوين.. يا أطفال شيلي الثائرة وفلسطين..
وفجأة يغادرنا كوكب في منحة حزبية لدراسة الموسيقى في بودابست ومن ثم إلى باكو، وتتسارع الأحداث لتتوجها فضيحة انهيار الجبهة الوطنية المأساوية والجو الكارثي، ابتداءً من 1978 مرورا بالحروب التي تعرفونها ولا يعرفها كثيرون سوانا ربما، وغاب كوكب (بالنسبة لي) في غيوم الغربة المتلبدة وتوارت أخباره باستثناء نزر قليل نتسقطه من هنا وهناك، وهذا النزر جاء بعد أن أرغم النظام على رفع قيود السفر إثر هزيمته النكراء في الكويت 1991.
ذات نهار مطلع الألفية الثالثة، وكنت حينها في دبي، اتصل بي أحد الأصدقاء هاتفاً: “كوكب يسأل عنك وهو موجود معي في الشارقة..!” مبعث دهشتي أنه مازال يتذكرني ويسأل عني، بعد فراق دام أكثر من ربع قرن، لتتكرر لقاءاتنا (بعد سقوط النظام) في دبي ودمشق وسواهما من مدن الله، حتى عودتي إلى العراق واندلاع مظاهرات شباط 2011 التي أتت بكوكب إلى ساحة التحرير، حيث كانت العيون تترقبه بلهفة، مشاركته كانت مفتتحاً للقاءات عديدة بين بغداد وأربيل والقاسم ودمشق.
كوكب الذي ينهض ليمسح دموعك وأنت على منصة الشعر في برج بابل، هو الذي يعلمك درساً في التسامح والمحبة ونسيان ما يجب نسيانه ليبتعد الوطن عن الدم والعنف والكراهية، هو الذي يعلمك بلا محاضرات كيف تحب الحياة وتجعل كل لحظة منها مهمةً لا ينبغي التفريط بها، هو الذي يقتاد روحك إلى المحبة ويعلمك كيف تحب وتعيش بدون أن تخدش قلباً أو تخشّن روحاً، وأن عليك ان تحب لتجعل الكون أقل قبحاً ووحشية وبشاعة، بل أكثر جمالاً ورهافةً وعذوبة.. فإن كنت تحب سيجعلك تهمس له وهو في رقدته الأخيرة: معرفتي العميقة بك، بحياتك وموتك هذا ستجعلني أحتضن حبيبتي وأقبلها وأسكر بأنفاسها. وستنتظر منها أن تقول لك وهي تشم عنقك: ياحبيبي كلنا لها ما دام قدرنا الحتمي مسألة وقت..!
وداعاً كوكبنا الجميل، وداعاً بكل المحبة، فما زالت (أشواقنا طرية والروح مزهرية)، كما قلت في واحدة من أغنياتك.. (يخضّر وردها لو جيت)..