العلاج النفسي بالمسرح.. تجربة رائدة ونتائج مبشّرة

962

رغد عبد الزهرة/

اليوم العشرون من شهر شباط، حركة غير اعتيادية في مستشفى ابن رشد التدريبي للطب النفسي في بغداد، الكلّ بانتظار حدث جديد من نوعه، والحدث هو عرض مسرحي يقدمه مرضى المستشفى! كان الترقب والفضول على أشدّه، حينَ دخلَ شاب أسمر البشرة إلى قاعة العرض، وهو يعزفُ لحناً رقيقاً على عودهِ، ليعلن ابتداء العرض المسرحي “أمنيات مواطن”، وهو ثمرة ثلاثة أشهر من عمل العيادة المسرحية، بين صفوف مرضى المستشفى، وبالتحديد في ردهة العلاج من الإدمان.

العلاج بالمستقبل

العيادة المسرحية هي مشروع كان قد قدمه الدكتور جبار خماط، المخرج والممثل المسرحي الأكاديمي في كلية الفنون الجميلة، جامعة بغداد، إذ قدم الدكتور خلاصة خبرته الفنية، بطريقة مبتكرة وجديدة لتغيير المجتمع، عن طريق التمثيل المسرحي. كنتُ قد رافقت الدكتور خماط منذ بداية المشروع الذي قدمه إلى وزارة الصحة وتمت الموافقة عليه، لنبدأ منذ شهر كانون الثاني 2016، بالحضور ثلاثة أيام أسبوعياً، لنجلس مع المرضى، في قاعة المناسبات في المشفى، يعلّمهم الدكتور جبار أساسيات التمثيل، والحركة على المسرح، وتمارين التواصل مع الآخرين، وتمارين الأداء والصوت، وغيرها. بينما أُقوم بتسجيل الملاحظات، وتقييم التحسن الذي يطرأ على كلّ مريض، ومدى تفاعلهِ مع التجربة.

تستند فكرة العيادة المسرحية في أساسها على العلاج بالمستقبل، وهي بذلكَ تُخالف السايكودراما، والتي تستند على إعادة تمثيل ماضي المريض، بينما تقوم العيادة المسرحية بإعطاء المريض الفرصة لاستكشاف دور آخر ممكن لهُ في الحياة، دور لا يشبهُ دوره الاعتيادي فيها، فبدلاً عن دور الأب المُهمل لعائلتهِ، الأب الذي تسبب في تشتت عائلته بسبب إدمانه على الكحول، يمثل المريض “ق” في العرض دوراً لرجلٍ وقور، يسعى بكلّ جهده لغرض تعيين ولده الوحيد، طالب القانون، رافضاً السير في درب ملتوٍ مثل درب الرشوة.

دور المثقف

المريض “م”، شاب بلا عمل، يعاني بالاضافة إلى إدمانه من إهمال تام لمظهرهِ، وخجل دائم، يظهر واضحاً في حركته المضطربة، تغير وضعه كثيراً بعد أن أُسند إليه دور مثقف، وكاتب صحفي يسعى لإصلاح المجتمع عن طريق كلمته النبيلة، وهو في هذا الدور يتحول من كونه أشبه بالنكرة في المجتمع، إلى شخص يُعد مثالاً، يسعى إليهِ شاب أصغر منهُ سناً، إسناد دور كهذا للمريض “م” غيّر في نفسه الكثير، إذ صارَ أكثر ثقة بنفسهِ، وهو يعيش هذا الدور الذي يجعلهُ فخوراً بذاته، وبعد أسبوع واحد من التمثيل، لم نستطع تمييزه للتغير الذي طرأ عليه، إذ صارَ أكثرَ اعتداداً بنفسه، وعاد إلينا بعد أن انتهت فترة علاجه وقد حلقَ ذقنه، ليغير مظهره، والتحق بعمل ثابت بعدَ أن كانَ عالة على عائلته.

اكتساب الثقة بالنفس

تساعد العيادة المسرحية الأشخاص على استكشاف ذواتهم من جديد، وعدم الاقتناع بالدور السلبي الوحيد الذي قاموا بأدائهِ في حياتهم من قبل، كما تساعدهم على اكتساب الثقة بالنفس، واكتساب مهارات التواصل، وهي نقطة شدد عليها المرضى كثيراً في أحاديثهم عن التجربة، إذ صرّح الجميع بأنهم لم يعودوا بحاجة إلى عزل أنفسهم عن المجتمع، صاروا أكثر ثقة بالتعامل مع بعضهم، وأقل عدوانية، وفي الوقت ذاته أكثر انبساطاً في الحديث عن تجاربهم السابقة، وهو ما حصلَ في إحدى الجلسات التدريبية، إذ طلب أحد المرضى “ع” الوقوف على المنصة، ليحدثنا عن سبب إدمانهِ بعدَ أن خسر حبيبته، وهو الأمر الذي فاجأ معالجهُ النفسي، الذي قال إنّه كان يرفض بشدة التصريح بسبب إدمانه، وكذلك المريض “ر” الذي وقف ليغني موّالاً عراقياً شجياً، بعد أن سمعَ عزف العود، ولعازف العود حكاية لحاله.

المرض حجبَه عن الناس

العازف “إيلاف” لم يكن مريضاً بالإدمان، بل مريضاً بنوع من الفوبيا تُعرف بالفوبيا الاجتماعية؛ أيّ الخوف من أي نوع من التجمعات، والرغبة بالعزلة، التي جعلته يخسر عمله، والكثير من الفرص التي قُدمت لهُ لموهبته الفريدة بعزف العود، لكنّ المرض حجبه عن الناس، إذ أنّ مجرد فكرة وقوفه أمام شخص كان يسبب له عذاباً نفسياً، ونوبات فزع وتسارع بدقات القلب، لذا فضّل العزلة، وكان مستغرباً من طلب الدكتور منه أن ينضم إلينا بطلاً للعرض المسرحي، وهو طلب يكاد يكون مستحيلاً تحقيقه، لكنّه تحقق، وقدم إيلاف ورفاقه عرضاً رائعاً، وعزفَ بتلقائية أمام الجمهور، الذي استمرَ بطلب المزيد من العزف منه، حتى بعد انتهاء المسرحية.

شمل مشروع العيادة كلّ من دخل المستشفى للعلاج من الإدمان من كانون الأول وحتى شباط، وكان عدد المشاركين في التدريبات 15 مريضاً، بعضهم خرج من المستشفى بعد انتهاء دورته العلاجية، والبعض الآخر استمر معنا وقدمَ العرض. كان العمل تطوعياً بالكامل، بدون أي نوع من الدعم المادي من أية جهة، وقد وفر لنا مستشفى ابن رشد وعلى رأسه مدير المشفى الدكتور أسامة عباس المكان للتدريب، وإمكانية التواصل مع المرضى، بتوصية من المستشار الوطني للصحة النفسية الدكتور عماد عبد الرزاق، ورافقتنا مجوعة من كادر المستشفى من ضمنهم الاستاذ قاسم معاون المدير لشؤون التمريض، وكادر من الممرضين والباحثين النفسيين الذين تفاعلوا بشدة مع هذهِ التجربة.

تجربة العيادة المسرحية لا تشمل المرضى النفسيين فقط، فثمة توجّه لفئات أخرى من المجتمع، كالنازحين، والأيتام، والأطفال المُتسربين من المدارس، وغيرهم ممن هم بحاجة الى الدعم النفسي، وزيادة حجم تواصلهم مع المجتمع، وإبعادهم عن الانعزال الذي يؤدي إلى إضعاف أواصر التعايش.