الفنان سهيل بدور لـ “الشبكة”: الفن دخل دائرة مقلقة بسبب أوضاع المنطقة

721

جواد ديوب /

يحلم منذ صغره بأن يجعلَ من النجمة حليةً لامرأةٍ أثيرة. يشاكسُ بعفوية طفل ويتأمل بعينين من فرحٍ وحزنٍ وجوهَ البشر وأجسادهم كأنهم كائناته المقدّسة التي ينحاز لها دائماً.

غادرَ أرض الجوع والفقر والتسكّع إلى جبال الفنّ الوعرة ليحفر بأسنانه ويديه تجربته الفريدة نحتاً ورسماً وليبقي منارَتَه مضاءةً في عالم الفنّ السوري والعالمي. يقول عن التجربة العراقية في الفن بأنها أثّرت في وجدان الجميع. ويجب أن نعترف بأن العراق من المدارس التشكيلية الرائدة في العالم وأن الفنانين العراقيين ملوِّنون من الطراز الرفيع، لكن للأسف كلما دخلت مأساةٌ إلى بلدٍ ما دَخَلَ الفنُّ في مساربَ سوداويّة ومناخاتٍ كئيبة ويصبح الفن كما أصبح عندنا نوعاً من دائرة مقفلة وأجواء معتمة. إنه النحّات سهيل بدور صاحب 35 معرضاً فردياً و 45 معرضاً جماعياً عربياً وعالمياً، مَنْ يقيم “مرتحلاً” بين دمشق ودبي.
حاورته مجلة “الشبكة” وكان هذا البوح الوجداني:

قلتَ مرة: “مهمّتي أن أبقى قلِقاً وهو شرطٌ من شروط حرّيتي” وإنك “مسكونٌ بخوفٍ شامل”… كيف تستطيع أن تحافظ على حريتك ضمن شرط الخوف هذا؟ وكيف تنقذ نفسك من جنونٍ يكتسح العالم؟

حضوري على الحياة كفنان كي أنجو من قبحٍ تراكم في ذاتي بفعل الزمن ومجتمع كرَّسَ البشاعة بأشكال متعددة. منذ أن بدأت أتلمس بذور الوعي كنت قلقاً لا أعرف كيف أنام إلا بعد أن ألعب وأعبث بالأغراض من حولي مثل النابض الذي يختزن قدرة دائمة على التوتر. ربما عززت ذلك بشكل نبيل لأن هناك نوعاً من نُبل ما في داخلي. كبرت وواجهت الخوف من أن أفقد طفولتي، أن أفقد أغنية جميلة أو رقصة جميلة أو نقاشاً حيّاً مع حبيبتي. البشاعة باتت تدميريّة بدءاً من تعامل الناس مع بعضهم والحوارت الشرسة التي يخوضونها لكنني استنهض “سُهيلاً” القديم في داخلي لأبقى حيّاً ومتوازناً.

وهل إدهاشُك للمتفرّج بعذوبة ألوانك ودفئها ورقْصها المفرح هو فلسفتك الخاصة في الفن؟

من المهم لي أن أُحمِّل لوحتي دفئاً إنسانياً، لأن العين البشرية ميّالة إلى الطزاجة والدفء وقد أدركت من خلال تجربتي النحتية والتصويرية أن الألوان الطاهرة تدخل القلب بلمحة وهذا ما جعلني أرسم دون مَزْج، دون معالجة لونية. أرسم غالباً من أنبوب اللون دون استخدام المزّاجة. أعمل بأصابعي ويديّ وبأي شيء على الإطلاق؛ بغصن شجرة، بفرشاة دهان ضخمة، بقطعة حذاء مهترئة وهذا ما أعلِّمُه في ورشات الرسم التي أدعى إليها عالمياً وعربياً. حتى في النحت أشتغل على خاماتٍ صعبة ومشاكسة منذ الثمانينيات، أنا مشاغبٌ أبني معماراً نحتياً فيه إحراجات حركيّة لا يجرؤ الكثير من النحاتين على القيام بها. والسبب هو أن النحت بنظري رقصٌ أبديٌّ. فالكتلة المصمِتة غير موجودة بالنسبة لي. أشعر معها أنني أختنق أو أنني أغتالُ أعمالي!.

لو تأملنا في لوحاتك لوجدنا معظم الشخوص هن نساء تُصوِّرُهنّ متلبّساتٍ في حالات شعورية تدعوها “سوناتا الانتظار” يعزفن على آلة موسيقية.. يجعلني ذلك أتساءل: هل تخاف من الزمن؟ وكيف تتعامل مع نهره الهادر الجريان؟

نعم أخاف، أنا ابن قرية وما تزال هناك في داخلي أثارٌ جميلة من نبالة وطيبة الضيعة رغم تجوالي المستمر وغربتي الطويلة. أحنّ إلى أماكني الأولى. أنا ملتصق بوجدان الأماكن إلى درجة أن الكلمات الوجدانية تعنيني وتؤثر بي. أنا في المرحلة الملكية من عمري ولا يقدر أي شخص في العالم أن بفرض عليّ قراراً لا أوافق عليه أو خياراً لا أقتنع به. تعبتُ على تجربتي وحقّي أن أرتاح ضمن حيّز حصانتي الروحية. ولو كنت غير ذلك سيكون هناك مشكلة حقيقية.

كأنّ وجود الأنثى الكثيف والدائم في أعمالك بمثابة بحث عن شيءٍ تفتقده عميقاً في روحك… ربما فردوسٍ مفقود أو حُضنٍ غائب؟

صحيح بالمطلق، سأعترف بجرأة أن أهلنا لم يسيئوا تربيتنا لكنهم لم يحسنوها أيضاً بسبب الفقر وكثرة الأولاد. وهذا فعلاً جعلني منقوصَ الحنان. في تجربتي الزوجية لم أوفّق بامرأة تكون امتداداً لروحي الجوّانية رغم أنني أعتبر نفسي شخصاً محظوظاً مع النساء. كنتُ محتاجاً إلى امرأة تحضنني جيداً وتعطيني الأمان. قالت لي مديرةُ متحفٍ ألمانية حين شاهدتْ أعمالي: “بين كلِّ نسائك هناك امرأةٌ مفقودةٌ”! حين قالتْ ذلك – وكانت أول من قالها لي يوماً- هزّني شعورٌ عاطفي عنيف وكدتُ أبكي فعلاً كأنها ضبطتني متلبساً في أضعف حالاتي الجوّانية.

تجعلني الوجوه المكسورة لكن غير المهزومة في لوحاتك أحسُّ بأنك إنسانٌ حزين بقلبِ طفل حنون في جسدِ وعقلِ رجلٍ ناضج… هل فعلاً أنت هكذا؟
فعلاً. ببساطة يمكن أن أرقص وألعب مع الأطفال في الشارع. ولو تركتني في محل ألعاب أطفال لبقيتُ ساعات طويلة ألعب دون انتباه إلى الوقت. لكن لكي لا أجمِّل الواقع ولا أبالغ هناك أناسٌ لديّ قواسم مشتركة معهم في هذه الجزئية، وهناك آخرون يريدون اتهامك والتشهير بك بكونك مختلفٌ عنهم أو بقصد الانتقام والتشفّي وإثارة البلبلة. وغالباً لا أردّ على تلك المهاترات.

ألا تهتم للنقد إذاً؟ وأين هي مرآتك؟

أستمع إلى كل الآراء. لكنني أنظر إلى الأمام دائماً. أدخل إلى مرسمي وأعمل عشر ساعات متواصلة. وأهتمّ لمن ينتقدني باحترام لجهدي وتجربتي الطويلة.
كان البحارة الفينيقيون عندما يتيهون في أعالي التيارات المالحة ويوشكون على الغرق يتلون صلاةً تقول: “يا أمّ قرطاج..ها أنا أعيدُ مجذافي/ أيتها الآلهة لا تحكمي عليّ كإلهْ بل كإنسانٍ كسَرَهُ المحيط”… هل تتصور حياتك خارج بحر الألوان وأزاميل النحت؟ ما الذي يمكن أن يجبرك على ترك مجذافك وماذا يمكن أن تكون صلاتك الأخيرة؟

سأبقى إلى آخر نَفَسٍ (وأنا بالمناسبة سبّاحُ مسافاتٍ طويلة) مناكفاً لطيفاً. هل تعلم أن عدداً من أصابع يدي متأذية ولا أستطيع تحريكها أو العمل بها نتيجة إصابات خطيرة من أزاميل ومناشير النحت!؟. لكن لن أتوقف عن كوني فناناً رغم أنني أصبت منذ فترة بأزمة قلبية. وقتها بكيتُ بحرقةٍ ورعب لأنني استحضرتُ كل عوالم النحت والرسم التي سأفتقدها فيما لو لم أعدْ للحياة. حضوري على الحياة هو كل ما أؤمن به بالمطلق. وليس من صلاة أصلّيها إلا أنْ تمهلني الحياة لأنجز ما هو في روحي ومنه مثلاً: “جدارية محمود درويش في دبي”. كما أرغب بشدّة ومن أعماق روحي أن أنجز شيئاً لبلدي مستوحىً من سنين الحرب الموجعة سيحمل مسحةَ سلام سأنجزها بما تبقى لي من أنفاس.