الفن الفطري.. الملامح الأولى للإبداع

684

محسن إبراهيم /

سر جماليته يكمن في بساطته وفي كونه لا يخضع لأية رقابة سواء فكرية أو فنية. الفن الفطري هو فن قائم بذاته، له حضور قوي في الساحة التشكيلية, وعلماء النفس أكدوا على أن الإنسان فنان بالفطرة، بينما علماء الاجتماع اعتبروا أن الفن الفطري هو أصل الفن التشكيلي، إذ أنه كان موجوداً مند بداية الوعي البشري بالوجود فرسم في الكهوف والمغارات.
في العراق، مهد الحضارات، هناك أكثر من فنان فطري تخطت أعمالهم المحلية ولاقت رواجاً عربياً وعالمياً.

بين القبول والرفض
نقاد هذا الفن انقسموا بين القبول والرفض، منهم من اعتبره فناً ساذجاً ومتخلفاً وتم إنتاجه في الدول المتخلفة، وبأنه الابن غير الشرعي للحركة التشكيلية اليوم ولا يمكن تصنيفه في أي من المدارس الفنية الحديثة.
الرأي الآخر اعتبره جزءاً من ثقافتنا الشعبية يجب الاهتمام به دراسة وتحليلاً، فهو يلتقي بتلقائية مع كثير من المدارس والتيارات الفنية المعاصرة كالتعبيرية والبدائية والوحشية.
بيكاسو ميسان
من ميسان، مهد الحضارة السومرية وأرض الطين والماء وتجسيد الرسوم والتماثيل، نقلت الجينات الوراثية هذا الفن الى سكان (ميسان) أرض سومر, عباس جابر، المولود في محافظة ميسان في العام 1954، هو مثال حي عن توارث ذلك الفن, انطبعت في ذاكرته صور فنية بسيطة ساعدت على تبلورها عوامل بيئية وعائلية عديدة أثرت تأثيراً مباشراً في تكوين وتنمية هذه الموهبة التي زرعت في مخيلته الذكية فكرة الفن لتكون منطلقاً في التعامل مع الأشياء, قال عنه مخرج فرنسي زار مدينة العمارة لتصوير فيلم عن واقع الأهوار: “إن هذا الفنان سومري النسب روحاً وشكلاً لكنه مغمور”.
عفوية فرات
الفنان منعم فرات، المولود في بغداد عام 1900، حين كان يعمل مزارعاً كان يفكر في النحت، كانت الصخرة الأولى التي عالجها أزميله قد تحولت الى رأس إنسان. ومنذ عمر الـ 18 واصل هوايته باستعماله الكتل الحجرية وتمليسه لها أكثر من كونه ينحتها، فأبرز صور النساء والرجال وكذلك صور الحيوانات وهي مزيج عجيب. حصل منعم فرات على الجائزة الأولى في المهرجان الدولي الثالث للفنون الفطرية الذي أقيم بمدينة (براتسلافا) في جيكوسلوفاكيا عام 1972. كتب عنه الناقد الايطالي ((البرتو جاتيني)): “منعم فرات اختار بمفرده طريقه الذي يقوده نحو غاياته الفنية، وهذا الاختيار انبثق من أعماق نفسه الأصيلة”، وقال عنه النحات محمد غني حكمت: “إن أعمال منعم فرات أصبحت وستصبح أمثولة لأكثر من فنان عراقي، ذلك لأن أعماله الخاصة وأسلوبه في تصوراته برمتها لا تتصل بمدرسة فنية معينة، ولا تشتبك بجذور من مؤثرات خارجية، إنها خلاصة ملاحظة عامة للمنظورات وتعبيرات مبهمة لأحاسيس وأخيلة عن الحيوان والإنسان في حبهما وفرحهما وغضبهما ورضاهما وأحلامهما وأمانيهما”. منحوتات منعم فرات أربكت الفنانين العراقيين عندما انتبهوا لها بل أدهشت فناني العالم والنقاد عندما عرضت في الخارج كونها قدمت قيمة كبيرة في الفن الفطري السائد في العالم.
تعبير جمالي
الناقد الفني خضير الزيدي تحدث عن هذا الموضوع قائلاً:
يحقق (الفن الفطري) اعتباره الجمالي انطلاقاً من قيم وتفاصيل فنية معلومة لدى الجميع. ولعل الغالب منا يعي تماماً مدى أهميته حينما يشار إليه، ولأن نوعاً من مثل الفن لم يكتسب قدراً من الدرس للمتلقي فقد بقي أسير رؤية ضيقة للأسف لم تحمل ما نتمناه من فهم خاص بروحية هذا الفن والأسباب التي تحيط به. أجد أن من الضروري أن نلتفت إليه ونقيم تجربة فنية رائعة للفنان منعم فرات على سبيل المثال.
فيما أضاف النحات وليد القيسي بالقول:
يبرز الفن الفطري في التقييم التاريخي له، وفيه من الجانب الإنساني بطريقة استرجاع الماضي لما له من الأهمية، لأن أعمال هؤلاء الفنانين لم تخضع لأي بحث من قبل النقاد والدارسين. ولأن هذا الفن بما فيه من التعبير الجمالي والذي هو نابع من الداخل الإنساني مثل (الشعبي) (البدائي)، فكلاهما ينهل مادته وصوره من الينابيع الصافية للفطرة الإنسانية، هو فن الإنسان الأول الذي ما زالت بقاياه موجودة في كل مكان من العالم، هو فن الحضارات الريفية الأولى التي تمتد جسورها الى الآن. ومن هذا المنطلق يمكن أن نعده فناً ذا مكانة يشار لها، لكن للأسف لم يأخذ نصيبه من البحث والدرس النقدي، وجميعنا يتذكر تلك المقولة الشهيرة “إن المادة حين تلامسها يده، تستحيل إلى تعبير مباشر، يمكن القول عنها إنها تغدو في حكم المنتهية منذ تخطيطها الأول، لأنه من البداية يجعلنا نستطيع التكهن بالتفاصيل التعبيرية.” المستشرق البلجيكي أرمان ابيل.
قوة الروح
اما الفنان التشكيلي فاخر محمد فقد أكد أن:
أجمل ما في الفن الفطري هو غياب العقل الثقافي والذي يكون أحياناً محدداً لانطلاقة وبداهة فعل الإبداع والطاقة الوجدانية عندما تتحقق بكامل قوتها وانفعالها، المراس المدرسي او التعليمي او المعرفة المسبقة أحياناً تقيد فعل الإبداع او تمنهج فعل العناصر لذا أجد أن الأعمال الفطرية فيها قوه الحدس وطلاقة الروح والمشاعر. وجميعنا نتذكر واحداً من رواده في النحت: منعم فرات، وفي الرسم كثيرون ممن استلهموا الفن الفطري بمن فيهم أنا وآخرون.