الكورال الحسينيّ لـ باسم الكربلائي..حداثة بلاغيَّة بروح المقام

217

عادل مكي/
خلودٌ ربانيٌّ وبلاغي حسيني فذَّ، ظلّت حاضرة رمزيَّة صداه في الأذهان المكلومة، ولا يزال عمقه السوسيولوجي يتمدد على مر الأزمان والأمكنة، أحياناً يأتي ذاتي البواطن عميق الروحيّة، وأحياناً لا يكون خارجاً عن الأطر الزمنية والموضوعية للواقعة الأليمة التي كان أثرها بالغاً في إدامة زخم تلك الثورة وتمددها جيلاً بعد جيل، فهي لم تبق محصورة في حدودها الجغرافية فحسب، بل إنها وصلت إلى آخر بقاع الكرة الأرضية من خلال ثقافة إحياء تلك الشعيرة بإقامة مجالس العزاء ونشر مظلومية أهل بيت النبوة.
تلك الطقوس المتوارثة أبقتها حية وخالدة وغير قابعة في طيات كتب التاريخ، بل امتدت حتى صارت معيناً لا ينتهي لكل قيم الفداء والنبل والكرامة لكل الشعوب التي تبحث عن حرية الخلاص.
لذلك.. ينبغي تفكيك رمزيَّة عاشوراء والوقوف عندها كظاهرة سوسيولوجية عالمية، نظراً لدورها الكبير في ديمومة هذه الثورة العظيمة، ثورة الإمام الحسين (ع)، ونشرها في دول العالم العديدة من خلال إقامة مجالس العزاء المتعددة في كل عام بعيداً عن العواطف والآراء، ولاسيما في جانبيها الفني والحسي، والموهبة المتفردة والمرهفة لأبرز (رواديدها)، الحاج باسم الكربلائي، باعتباره قيمة صوتية جبارة وموهبة ربانية متفردة أسهمت إسهاما كبيراً في نشر مظلومية وشجاعة أهل بيت النبوة في واقعة كربلاء الأليمة. وحتماً يتفق الكثيرون على أن ظاهرة الكربلائي لم تكن مألوفة قبل ثلاثين عاماً، لأن هذا الفتى قد أحدث تحولاً وانعطافة تاريخية كبيرة ذات قيمة فنية وبلاغية متفردة من الصعب مجاراتها أو اللحاق بها من أبناء جيله الذين ظهروا معه أو بعده. وبعيداً عن المسميات فإنه كان ومازال الرقم الصعب في معادلة الحسابات الفنية، فقد وضع هذا الرجل نصب عينيه التفرد في أن يقدم للذائقة السمعية الحسينية أشكالاً وأنواعاً مختلفة من النماذج الشعرية واللحنية في ترابط نغمي ولحني محبوك بعناية فائقة أفقد الكثير ممن حاولوا تقليده أو السير بنفس أسلوبه من اللحاق به أو تقديم ما يضاهيه أو يقترب منه، ولهذا نرى الكثير منهم قد تركوا هذا المعترك الصعب وذهبوا إلى خانة الغناء العاطفي لسهولته وكونه الأسرع انتشاراً.. حسبما يعتقدون.
لقد عمل باسم الكربلائي على ابتكار أساليب جديدة لم تكن مألوفة من ذي قبل، فلقد غير من الطرق السائدة في أسلوب وطريقة أداء اللطميات والردات الحسينية التي كان أكثرها يميل إلى البساطة و(الرتم) الثقيل، مستلهماً من حمزه الزغير وياسين الرميثي وعبد الرضا النجفي وجاسم الطويرجاوي، الروح المترعة بالوجع الخفي، فقد كان هؤلاء يعتمدون على المقامات الشرقية البحتة في اللطميات والنواعي، مثل مقام الصبا ومقام السيكاه ومقام الهزام ومقام البيات، التي يحتوي أكثرها على ربع تون، كمقامي العجم والكرد، لكن بطريقة النعي وبأسلوبهم الخاص. أما باسم الكربلائي فقد خرج عن الطابع المألوف، فاستخدم مثلاً مقام الكرد في لطميتي (روحي)، و(لا ترد ماظل أثر)، كذلك استخدم مقام البيات في (قارورة) وأنشودة (صغير واحتوى قلبي هواك)، و(مشتاك اشوفك ياحيدر) التي كانت من مقام الكرد مستخدماً أنصاف (التون) في هذا المقام، كذلك استخدم مقام النهاوند ومقام العجم ثم أدخل الإيقاع والكوردات والبيز والهارموني فصارت الأنشودة أو اللطمية تشبه الأغنية على حد سواء، لكن تنقصها الفواصل بين مقطع وآخر، ثم بعدها استعان بالأسلوب الإيراني والقاجاري والهندي والباكستاني في معظم ما قدمه من ألحان حسينية، كونه يستمع إلى أشكال وألوان مختلفة من الغناء العالمي كي يستفيد منه لاحقاً، ومتقرباً لحداثة العصر بصوته الشجي وإحساسه المفرط، وبالعبرة المختبئة في جوارح القلب.
استطاع باسم أن يشد إليه الأسماع المحبة للتغيير، فانجذبت إليه كل الأرواح التواقة للجمال، ليس في حدود الوطن الواحد أو الطائفة الواحدة، بل انجذبت إليه طوائف أخرى غير إسلامية، وبكل لغات العالم نظراً لما يقدمه من شجن وجمال مستخدماً أطواراً وأنغاماً مموسقة لم تكن موجودة في خريطة اللحن الحسيني. وبرغم اتهامه بأنه يقدم أعمالاً يقترب فيها إلى الغناء العاطفي، ولاسيما في المقامات التي كانت تعتبر محرمة عند قدماء المنبر الحسيني، سجل المئات من القصائد الحسينية في أحدث الستوديوهات النغمية، مستخدماً التوزيع الكورالي على يد أفضل الموزعين، أمثال ميشال فاضل، لتخرج لنا (ياقارورة) و(كل قطرة دم بشرياني) وعشرات الأعمال الكبيرة في قيمة فنية متفردة يحسب لها ألف حساب، متخطياً ثلاثة مليارات مشاهدة في قناته على اليوتيوب بمتابعة (9076) مليون شخص على تويتر، متجاوزاً المليون متابع.
لقد بدأ باسم الكربلائي في عام 1980 بنفس العام الذي جرى فيه إبعاده عن العراق بحجة أصوله غير العراقية، فاستقر في إيران، وتحديداً مدينة أصفهان، وخلال حضوره مجالس العزاء الحسينية اكتشف أحد أخواله إمكانياتة الصوتية فدفعه إلى قراءة القصائد الحسينية، ثم ساعده في ذلك (الملّا تقي) بتعلم أصول الإنشاد الديني، وبعد أن لمع نجمه انتقل إلى عدة دول خليجية، ثم استقر في دولة البحرين حيث زادت هناك شعبيته كثيراً فأقام مجالس متعددة في أميركا وبريطانيا والصين.
لقد تمتع باسم الكربلائي بذوق رفيع في انتخاب القصائد وذوق أرفع في ابتكار الألحان لها، لأن ارتكازه كان على مدرسة الرواد التي أسهمت كثيراً في صنع شخصيته المتفردة، وجعلته يتطور سريعاً ويبدع في تقديم الصور الشعرية الحديثة الصادقة والمعبرة، بالإضافة إلى طرحة المفاهيم الإنسانية السامية التي خلقتها ثورة الإمام الحسين (ع)، ففي القصائد المسجلة في الستوديوهات يحاول أن يقدم أشكالاً وأنماطاً متعددة تختلف كثيراً عما يقدمه من على المنابر، فهناك أسلوب معين وهنا أسلوب آخر يقترب فيه من الناس جعله يمسك بزمام كلتا الحالتين بنفس الروح وبنفس الإبداع والجمال، لذلك يمكننا القول، وبقطعيّة مطلقة، إن باسم الكربلائي، شئنا أم أبينا، هو ظاهرة حسينية التفت حولها الملايين من المحبين التواقين لسماع ما تجود به قريحته الفنية الساحرة في أداء وتقديم العطاء الثر لواقعة كربلاء الأليمة وتخليد جرح الطفّ الكبير.