المحاورات الغنائية الشعرية طربيَّة النغم وكاسيـــت “البكـــرة”..
عادل مكي /
يوم كانت طربيَّة النغم وملوحة الموال الريفي تخترقان جدار الذائقة وتخضعان الروح، رغماً عن أنفها، إلى قانون الهيام مع (توناتهِ)، لم يخطر في بالي مع بداية الثمانينيات، وأنا ذلك الشاب الطموح المكتنز بحب الشعر والموسيقى والمسرح، أن اقتحم هذا الميدان الفذّ وأغامر بصوتي عبر تقديم فكرة المحاورة الشعرية الغنائية في مقدمة شعرية لكاسيت أحد المطربين الشباب كلمات هذا الكاسيت كانت جميعها من كلماتي، مع ومضة شعرية قصيرة، ولم يكن في حسباني أنها سوف تنال استحسان ورضا كل من سمعها، وتصبح المقدمة الصوتية حديث أهل الطرب والناس،بكونها حالة جديدة لم تكن مألوفة او مطروقة آنذاك، لأن في هذه الفترة كان لسوق الكاسيت (البكرة) رواج كبير من حيث اقتناء الناس لكل ماهو جديد من الأصوات الغنائية التي كانت تسجل أغانيها عند محال التسجيلات الصوتية، لأن الإذاعة والتلفزيون لم يكونا يعطيان الفرص إلا بمواصفات خاصة، تشتمل على الجودة في الكلام واللحن، وبموافقة لجان متخصصة مهمتها تكاد تكون صارمة، وأحياناً قاسية.
صار صوتي يتسيّد أكثر الأشرطة الصوتية لجمهرة كبيرة من مطربي الحفلات وكاسيتات (البكرة) لمحال عدة، أو ما يطلق عليها (تسجيلات) معروفة، كتسجيلات حميد العبودي، وتسجيلات حكمت، وتسجيلات علي صالح، والدار البيضاء، وكان شرط غالبية مطربي الريف والشباب على أهل التسجيلات أن تكون المقدمة التعريفية بهم بصوتي لاغير. طبعاً أفرحني الأمر كثيراً، لكني لم أكن أعلم أن هذا الأمر سوف يزعج ويزيح من تسيد لسنوات طوال في تقديم كل المطربين من الريف والشباب في المقدمة الصوتية، ألا وهو الفنان وعازف الكمان الكبير الفنان فالح حسن، من عرش التقديم، حيث أغضبهُ الأمر فعاتبني قائلاً:
“گطعت زرقي، انت منين طلعت، بويه آني عل المقدمة آخذ أجر خاص”..
طبعاً اعتذرت منه بلطف ومحبّة، لكن الأمر اصبح واقعاً، وانتهى بذلك عهد فالح حسن في التقديم، الذي كان عبارة عن مقدمة طويلة يذكر فيها كل التفاصيل لأي تسجيل صوتي، فيقول مثلاً “سجلت هذه البكرة -أي شريط التسجيل- في سبعة سبعة من العام 1977 بحضور البطل العالمي علي الكيار وسائق سيارة النيرن على خط عمارة بغداد جواد (الدريول) وخلفة البناء المختص بتطبيق الكاشي الموزائيك عباس شناوة، وشرفنا بحضور الحفلة مفوض المرور سلمان البصراوي، وكاتب العرائض أبو سميرة”، وبعد الانتهاء من هذا الاستهلال الطويل تباشر الفرقة الموسيقية العزف ويبدأ المطرب وصلته الغنائية، وبين فاصل وآخر يرحب فالح بالحضور بذكر أسمائهم واسم صاحب التسجيلات الذي أشرف وأنتج هذه الجلسة الغنائية رغم بساطتها وعفويتها.
لكن بدخولي على الخط أصبحت المقدمة الصوتية مهذبة وقصيرة ومقتضبة، علماً بأنني حاولت في كل تسجيل أن يكون التقديم لافتاً للانتباه من حيث طريقة الأداء الصوتي واختيار جمل وعبارات حديثة تواكب الحداثة بعد دخول أنظمة التسجيل الصوتي (الأتراكات). و(الأتراك) هو عبارة عن برنامج تسجيلي أنهى بدوره عصر التسجيل المباشر، بحيث تسجل كل آلة موسيقية على جانب، وبعد الانتهاء من تسجيل كل الآلات الموسيقية والإيقاعية يدخل صوت المطرب. أما مهمتي فكانت بإضافة صوتي بعد إكمال العمل وأكون أنا المسك في الختام. انهالت وقتها عليّ العروض من كل التسجيلات من داخل العراق وخارجه، إذ شاركت في العديد من (التسجيلات) الصوتية بمحاورات شعرية غنائية، أهمها مع الفنان كريم منصور في ألبوم (دفنته وجيت)، وعشرات المحاورات الغنائية الشعرية المختلفة.
الجدير بالذكر هو أن فن التقديم له مواصفات فنية مختلفة من حيث طريقة الإلقاء والتنويع والتنغيم الصوتي، وبإيقاع خاص، فالحفل أو الألبوم المسجّل داخل الستديو له طريقة خاصة في التقديم تعتمد على رتم الأغنية الأولى التي تحتل بداية الكاسيت، لأن المقدمة الصوتية توضع فوق موسيقاها، وكذلك الحال مع الحفلات أو الجلسات الخاصة، فلكل حالة هناك طريقة تقديم يختلف بعضها عن بعض، لكنها تلتقي مع المعنى العام في الترويج وطريقة التقديم، وكان لا يمر أسبوع واحد إلاّ وكانت هناك أكثر من خمسة أو ستة اشرطة صوتية تدخل إلى سوق الكاسيت يدخل معها صوتي، ليعرف المستمع من هو المطرب ومن هي شركة التسجيل أو الإنتاج.
لقد أسهمت محال الكاسيت في تسجيل العشرات، بل المئات، من الأشرطة الصوتية المهمة (البكرات) استمرت حقباً طويلة في إنعاش الأغنية الريفية والشبابية على حد سواء، وظهرت أصوات كبيرة وعظيمة مثل: سلمان المنكوب، وعبادي العماري، وسيد فيصل، وسيد محمد، ويونس العبودي، ورعد الناصري، وكريم منصور، وعبد فلك، وحسين البصري، وصباح الخياط، وفرج وهاب، وعلي العيساوي، وحاتم العراقي، وصلاح البحر.. والمئات من المطربين الذين أصبحوا فيما بعد نجوماً معتمدين في الإذاعة والتلفزيون. لقد كان الفضل الأول لظهور تلك الأسماء في ذلك الشريط الصغير (البكرة)، الذي كانت مبيعاته تصل إلى أرقام فلكية من حيث البيع والتوزيع، وكانت الأشرطة الصوتية تستورد من مناشئ عالمية وبأنواع متنوعة ومختلفة، وكان الطبع والتوزيع ينجزان داخل تلك المحال عن طريق أجهزة الاستنساخ بثلاث دقائق فقط، يجري فيها طبع ثلاثة أشرطة دفعة واحدة لتكون جاهزة بين أسماع المتذوقين. كانت تلك الحقبة مهمة وكبيرة وغزيرة، رفدت الساحة الغنائية بروائع جميلة لا تنسى من الألحان والأغاني الشجية التي ستنهل منها الأجيال، لأنها كانت، رغم بساطتها، تحمل في طياتها الكثير من الإبداع والجمال.