الممثلة.. من جسد مقموع إلى نجمة يحتفى بها

362

د . سعد عزيز عبد الصاحب – تصوير : صباح الامارة /

استمر الجسد الانثوي بوصفه محرما في التاريخ الاجتماعي والثقافي والفني الحديث للعراق بسبب الانساق الثقافية والاجتماعية والدينية التي أسهمت بوصم الجسد الانثوي بتابو تأريخي لم يجر العبور عليه إلا في لحظات نادرة من تاريخ العراق المعاصر ..
وربما أسهمت حركة النهضة العربية في بدايات القرن العشرين بدعوات عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الافغاني في إذابة شيء من الجليد الكثيف الذي كسا الجسد الانثوي العربي قرونا طويلة وألقى بظلاله على الحركة النسوية العراقية متزامنا مع بناء الدولة العراقية الحديثة عام 1920 وبدعوات الاصلاح ودمج المرأة بحركة المجتمع التي قادها الرصافي والزهاوي والبستاني وعدم قعودها في البيت وعملها أسوة بالرجل في المعمل والمدرسة والجامعة .. وعندما جاءت الفنون الجميلة وافدة من الغرب ودخلت العراق المعاصر بقي التابو ملازما لحضور الجسد الانثوي واندماجه في الفنون لا سيما في حقل المسرح فترات طويلة.. فأخذ الشباب الوسيمون من الذكور يلعبون دور الاناث طوال ثلاثة عقود (العشرينيات والثلاثينيات والاربعينيات) على الرغم من حضور عديد الفرق العربية المصرية الى العراق كفرقة فاطمة رشدي ويوسف وهبي وجورج أبيض ومعهم جملة من الممثلات .
عدوى التأثر
لم يخلق هذا الحضور عدوى التأثر من قبل المرأة العراقية لتنخرط في الحقل المسرحي وذلك بسبب عظم النظرة القاصرة لدور الممثلة في المجتمع وعدم إتيان الدولة الوليدة في دستورها بقوانين تخص الفنون والفن المسرحي بخاصة، إضافة لازدهار الملاهي والراقصات وبنات الليل في تلك الفترة وما احتوته من خروقات للآداب العامة، كل ذلك أسهم في تأخر زج العوائل العراقية ببناتها في العروض المسرحية الا ما ندر، ومن ضمن النادر والقليل والشاذ جاءت الممثلة (مديحة سعيد) لتخرق القاعدة وتنشق على الاعراف والتقاليد السائدة لتشكل علامة فارقة في الحضور المسرحي الانثوي لا سيما أنها تمتلك قدرا لا بأس به من الجمال وعذوبة الصوت بعد أن قدم حقي الشبلي تعهدات وضمانات قاسية لأهلها في الانضمام لفرقته المسرحية لتستمر لفترة معينة تعمل في فرقته حتى ارتبط بها ضابط من أهالي الموصل وأقعدها في البيت … ظل المجتمع العراقي ينظر بريبة وشك وحذر لحضور الجسد الانثوي في التجارب المسرحية حتى عندما افتتح فرع التمثيل في معهد الفنون الجميلة عام 1940 فإن الشابات عزفن عن الدخول والتسجيل فيه ورحن لفروع الرسم والنحت والموسيقى وهذه (عبلة العزاوي) أول فتاة يحتضنها معهد الفنون الجميلة تدخل فرع النحت وليس التمثيل الذي ظل فرعا ذكوريا لفترة طويلة، وأخذ الطلبة المطبقون في فرع التمثيل يستعينون بطالبات النحت والرسم والموسيقى لإشغال الشخصيات والادوار الانثوية في مسرحياتهم في حين أخذ البعض الآخر يبتعد عن المسرحيات التي تحتوي على شخصيات أنثوية لكي لا يدخل في ورطة البحث عن ممثلة وإشكالياتها.
نظرة قاصرة
كانت النظرة المجتمعية قاصرة في عقد الخمسينيات لحضور الممثلات في المشهد المسرحي في ظل الاجحاف والتقصير الاجتماعي والديني فجسد المرأة عورة من غير الممكن إشهاره عبر الوسيط المسرحي، أما من وجهة نظر الدولة ودستورها فلا يحق للممثلة مثلا الارتباط بضابط في الجيش العراقي او دبلوماسي كبير وهي ما تزال تعمل في الوسط الفني وهذا الامر مثبت في جريدة الوقائع العراقية ولا تقبل شهادة الممثلة في المحاكم لأنها بوصف الدولة القاصر (ممثلة) تلعب الأدوار المختلفة، فلا كلمة فصل لديها ولا حقيقة مجسدة .. تخيلوا أنهم نقلوا صورتها المرآوية على خشبة المسرح لتكون صورة ثابتة في المعاملات اليومية … الى أن جاءت فترة ثورة 1958 فدخلت عندها المرأة العراقية في مجال التمثيل بقوة بعد أن حاول النظام الجديد إلغاء القوانين القديمة الخاصة بالمرأة الممثلة وأجيزت العديد من الفرق الاهلية التي ضمت جملة من الممثلات المتعلمات منهن زينب وازودوهي صاموئيل وناهدة الرماح ومي شوقي وزكية خليفة وغيرهن .. ودخلت جملة من الفتيات النابهات معهد الفنون الجميلة وهذه المرة لفرع التمثيل بالذات كفوزية الشندي وازودوهي صاموئيل وهناء عبد القادر وسهام السبتي وغزوة الخالدي وغيرهن.
تطور الوعي
كان للانفتاح الثقافي على الحركات الاجتماعية والفنية الغربية ومن ضمنها حركات تحرر المرأة وبتوجيه من الحركات السياسية اليسارية في بلادنا الاثر البالغ في تطور وعي المرأة العراقية بشكل مطرد وتعرفها على حقوقها وواجباتها .. الا أن النظرة المجتمعية ظلت رجعية وقاصرة تجاه المرأة وجسدها المنخرط في الفنون والتابو المزمن والمحرم الذي أكل من جرف عطائها الكثير وأخرها عن ركب إناث المنطقة ..فاغلب المنتميات مثلا للفرقة القومية للتمثيل في بداية تأسيسها هن ناشطات مسرحيات في المحافظات هربن الى العاصمة بسبب الضغط الاجتماعي والعائلي في مدنهن وقراهن النائية، جئن وسجلن في الفرقة الوليدة لحماية أنفسهن من الثأر العشائري من جهة وإيجادهن مصدرا للعمل و للعيش الكريم بل وأخذن يظهرن في وسائل الاعلام وفي مانشيتات المسرحيات بأسماء مستعارة خوفا من التعرف عليهن من قبل أهاليهن .. ولم تكن في الفرقة أي ممثلة من بغداد الا بعد أن جاء المخرج (ابراهيم جلال) بالممثلة (سعاد عبد الله ) من محلة باب الشيخ في بغداد بمظهرها الفاقع وجسدها المتحرر وقوة روحها وقدمها في مسرحية (البيك والسايق) عام 1973 والمعدة عن مسرحية (بونتيلا وتابعه ماتي) لـ(بريشت) ومثلت فيها محظية (بونتيلا) المتحررة وظهرت الممثلة سعاد عبد الله بملابس السباحة (المايوه) وهي تتقافز على خشبة المسرح وتثير المغريات الحسية بحركتها وصوتها المغناج في سابقة لم تشهدها مسارح بغداد الى ذلك الحين، حرض المظهر الذي ظهرت به (سعاد) في (البيك والسايق) ـ وقبلها عام 1971في مسرحية الطوفان تأليف (عادل كاظم) وإخراج جلال عندما لعبت دور صاحبة الحانة في المسرحية المقتبسة من ملحمة جلجامش ـ بقية الممثلات في الفرقة والفرق الاخرى عملن على تحرير أجسادهن بنسب معينة وحسب ما يقتضيه الدور التمثيلي وأصبحت الفرق المسرحية تتنافس في تقديم الممثلات الجدد خريجات معاهد وأكاديمية الفنون في بغداد وتأسست فرقة مسرح الرشيد للفنون الشعبية عام 1969ـ الفرقة القومية للفنون الشعبية فيما بعد ـ التي استوعبت أجمل الفتيات الشابات جسدا وقواما ممشوقا حيث تم اختيارهن بعناية فائقة من قبل لجان اجنبية متخصصة .
وفرة من الممثلات
تمظهرت حقبة السبعينيات عن حركات وتيارات مسرحية استوعبت هذا الحراك النسوي العريض وقدمت عروضا عديدة تعبّر عن (تيار النسوية) الما بعد حداثي كما في مسرحية (بيت برناردا البا) نص الشاعر الاسباني لوركا ومسرحية (جزيرة الماعز) نص الايطالي (ايغوبتي) ومن إخراج سامي عبد الحميد ومونودراما (آسف الرقم غلط) إعداد وإخراج محسن العزاوي وتمثيل (سليمة خضير)، وأصبحت هناك وفرة في الممثلات يتنافسن ادائيا فيما بينهن وأمست خيارات المخرجين لأداء الشخصيات النسائية متنوعة، وتحرر الجسد من ربقة المحددات الاجتماعية والثقافية ورقص الجسد الانثوي على إيقاعات السامبا والرومبا والخشابة البصرية والسمفونيات العالمية، وقبّل الممثل (حسن حسني) زميلته الممثلة (سعاد عبد الرزاق) في عرض (روميو وجوليت) إخراج محسن العزاوي في ملمح (ايروتيكي) جديد على المسرح العراقي حينها عام 1977، وصولا الى مسرح الثمانينيات (مسرح التعبئة للمعركة) حيث تحول الجسد الانثوي الى جسد نادب حزين يعبّر عن مكنوناته ولواعجه من خلال الحركة المأتمية (اللطم) (الضم) (الحنين للغائب) وتلاوين من الحركات التي استدعاها المخرجون من المثيولوجيا العراقية في مسرح التعازي والمسرح الطقسي وغيره، كما في مسرحيات (لغة الامهات) و(حكايات الارض والعطش والناس) إعداد وإخراج قاسم محمد وشجرة العائلة تأليف (عزيز عبد الصاحب) وإخراج قاسم محمد ومسرحية (مطر يمه) تاليف (عواطف نعيم) وإخراج (عزيز خيون) حيث اتخذت الانثى في هذه العروض وتلبست شخصيات الام الثكلى والحبيبة والزوجة المسبية والصابرة والمجنونة … تلفع الجسد الانثوي في أغلب هذه العروض باللون الاسود او بثياب العرس البيضاء كعروس مندلي وعبر خطابها المنطوق عن أسى العلاقة بينها وبين الحرب وهي تأكل الولد والحبيب والزوج والزمن الجميل.
زخم الثنائيات
أصبح هناك دور للثنائيات الادائية الذكر /الانثى والتباري الشرس في الاداء التمثيلي ما بين الممثلة والممثل كما في مسرحيات (الباب) و(العودة) نص يوسف الصائغ وإخراج قاسم محمد ومسرحية (قصة حب معاصرة) نص (فلاح شاكر) وإخراج (هاني هاني) واتذكر ثنائيات هديل كامل ومحمود ابو العباس وسهير إياد وجواد الشكرجي وشذى سالم والشكرجي ايضا، استمر زخم الثنائيات بطغيان الاداء التمثيلي للصوت الانثوي الى حقبة التسعينيات، هنا أخذ الجسد الانثوي ينطوي ويلف نفسه شيئا فشيئا ويتقهقر باتجاه (الذاتي) وحوار الوجود بعد أن كان في فترة السبعينيات منتشيا وإلقا ومفتوحا باتجاه الكرنفال الجماعي والغنائية، انتجت الثمانينيات جسدا أدائيا مرنا متحولا ومثقفا نوعا ما، إذ أراد القائمون على المسرح تجديد دماء الممثلات والاتيان بأجيال جديدة فظهرت اقبال نعيم وسهير اياد واسيا كمال واثمار خضر وسهى سالم وصولا لفترة التسعينيات والتي شهدت التحول الابرز للجسد الانثوي في تاريخ المسرح العراقي حين قلمت أظافره وقمع واستبعد قسرا بعد أن زجت معه أجساد هجينة، أجساد نتنة جاءت من الملاهي الليلية والمواخير بعد أن أغلقت بدعوى (الحملة الايمانية) فاضطرت العديد من الممثلات الملتزمات الى لزوم بيوتهن وترك العمل في المسرح، وهاجر البعض الاخر خارج البلاد كسهير اياد واثمار خضر وعواطف ابراهيم وغيرهن.
تسيّد العروض الاستهلاكية
تحول الجسد الانثوي التمثيلي الملفع بالاردية السوداء في عقد الثمانينيات الى جسد مقنع بأكثر من حجاب وغلالة متوار خلف السلطة الاجتماعية والدينية وعلى الرغم من ذلك ظهرت مجموعة من الممثلات المجيدات في مستهل عقد التسعينيات منهن (رغد احمد ولمياء بدن وزهرة بدن وهيفاء ابراهيم ووفاء حسين وشعاع وايمان ذياب وشيماء جواد من بابل وغيرهن .. ) الا أن معظمهن لم يستمر بالعمل في الوسط المسرحي كان حضورهن أشبه بجذوات قوية سرعان ما تخبو وتنطفئ لاسباب جوهرية عديدة، منها التابو الاجتماعي المهيمن وصعود أجساد أنثوية أخرى جاءت من فضاء وبيئات اخرى من الملاهي وبيوت الليل والمواخير للصعود على خشبة المسرح جاء بهن المنتج الخاص غير المتعلم، فظهرت ظواهر سلبية شاذة عديدة في الجسد المسرحي وسادت العروض الاستهلاكية الشعبية ذات الصبغة الكوميدية والساخرة مسارح بغداد والمحافظات، وأصبح المردود المادي للعروض المسرحية الجادة والرصينة لا يسد رمق الممثلات الجادات فآثر معظمهن العزلة والابتعاد عن العمل المسرحي واتجهت الممثلات الاخريات نحو العمل في الدراما التلفزيونية وأصبح منهن منتجات للمسلسلات الدرامية كهناء محمد وبتول عزيز وعواطف السلمان.
فرس الرهان
في حين استمر البعض من ممثلات جيلي السبعينيات والثمانينيات في العمل المسرحي الدؤوب والجاد والمضن أذكر منهن (عواطف نعيم واقبال نعيم وشذى سالم وعواطف السلمان وسمر محمد ..) ظهرن بعروض قليلة متباعدة لكنها مؤثرة على المستوى الفني والجمالي كمسرحيات (مرحبا أيتها الطمأنينة) و(في أعالي الحب) و(مئة عام من المحبة) و(النهضة) و(الحريم) و(الخادمات) و(بيت الاحزان ) .
وتبلورت الممثلة (عواطف نعيم) ككاتبة ومخرجة مسرحية لمسرح الطفل والكبار في فترتي أواخر الثمانينيات والتسعينيات حيث قدمت العديد من العروض المسرحية المقتبسة من القصص والسرديات العراقية وحولتها الى الجنس المسرحي، ومن المهم الاشارة الى ظهور وبزوغ نجم الممثلة (الاء حسين) في النصف الثاني من التسعينيات التي سارت على خطى ممثلاتنا المجيدات والملتزمات في اقتفائها آثار العروض الجيدة وانتقائها لأدوارها بعناية إضافة لامتلاكها صوت جميل وجسد مرن مطواع والكارزما الشخصية والحضور الواثق الذي امتلكته.. فظهرت في عروض بستان الكرز وعرس الدم وذهان والكرسي الاخير والعباءة وتفاحة القلب .. فرس رهان لكل المخرجين الذين عملت معهم، لمع اسم الممثلة الاء حسين لما احتوته كما اسلفت من مميزات وخصائص ادائية راقية إضافة لخلو الساحة الفنية من منافسين بعمرها وموهبتها وهي القادمة من معهد الفنون الجميلة قسم التشكيلي وليس المسرح .