الناقد موسى الخميسي: التربية الفنية وسيلة لتهذيب السلوك الإنساني
خضير الزيدي /
يهتم الكثير من النقاد بجوانب مضيئة من علم الجمال فما يتحقق جرّاءه يعطي المتلقي درساً بليغاً في التوازن النفسي والسلوكي. لهذا انصب جهد الكثير من الفلاسفة الإغريق والرومان والمفكرين المعاصرين حيال الجمالية الفنية وما تتركه من نتائج مؤثرة في الإنسان وذائقته.
ومن اجل معرفة تأثير المناهج والأساليب الفنية وتلازم ثنائية الخير والشر والقبح والجمال تحاورنا مع صاحب كتاب التربية الجمالية في الفكر المعاصر الدكتور الفنان موسى الخميسي لنتحدث عن الذائقة والتهذيب وما يسبقهما من تنظير في المناهج:
*ما المناهج المهمة التي تراها حققت نجاحاً في ترسيخ ذائقة الجمال؟
لاشك أن التربية الجمالية لها التأثير المباشر على النهوض بالفنون وبمحبتها والتجاوب معها لتصبح جزءاً مهماً وحيوياً في القيم التربوية والأخلاقية والمعرفية للإنسان، استناداً إلى مقوماتِ ومناهج وأساليب التربية الفنية، وما تحمله من دعائم تفيد الصغار والناشئة والكبار تقنياً وفنياً شكلاً ومضموناً، عبر الملاحظة والتوصيف والشرح والتحليل، حيث يخلص الأستاذ والناقد إلى إصدار أحكام تؤخذ بعين الاعتبار، فتكون مشجعة أو منبهة أو محددة للإيجابي الجميل، حيث يخوض هذا الكادر مع سائر المتلقين ومنهم المبدعون تجربة الاستمتاع والكشف والتحليل وإصدار الأحكام. والكادر الذي يساهم في مجال التربية الجمالية عليه أن يكون أكثر ثقافة وأدق ملاحظة وتحليلاً من غيره، يحاول استنباط الكامن والدفين شكلاً ومضموناً، مُعيناً على اكتشاف أسرار الجمال ومكامنه في الحياة اليومية لأي تجمع بشري في ما يتناوله ويشير إليه ويشاهده من أعمال فنية تثير الإعجاب والدهشة.
* أود أن أتساءل هنا أين تتجلى أهمية التربية الفنية؟
تتجلى أهمية التربية الجمالية في توجيه الإنسان إلى الخير الحقيقي، وتنحو بذائقة الفرد الجمالية شطر السمو، فتصبح قادرة على استخلاص الطبيعي الجميل من القبيح المشّوه ومما يجلب الأذى، ويكون هدفها الرئيس لا التنعم بالجميل فحسب، بل وتحصيل طهارة النفس البشرية أيضا، كي تبعد قلب الإنسان عن كل ما هو رديء وسيئ. بعبارة أخرى أن التربية عن طريق الفن وسيلة من الوسائل التربوية التي تقّيم وتهذب السلوك الإنساني، لأن الفن بطبيعته وعبر مساره التاريخي المصاحب للحضارات والديانات البشرية، لم يزل ملازماً ومنحازاً لجانب الخير والحق ما لم تفسده الفطرة. فالفن يرمز إلى الدقة والنظام، وهذه الصفات من مقوماته، كونه مساعداً على الاستنارة والإبانة عن مواطن الرقِيّ الجمالي والفني في الأعمال الفنية الإبداعية عامة، علاوة على كونه معيناً على تذوق الفنون التشكيلية باختلاف فروعها، وعاملاً دافعاً إلى بلورة وتجديد الفنون التشكيلية، مساهماً في إرساء قواعد وأسس متينة تساهم في تطويرها والتعريف بسر الجمال فيها، كما يساعد على اكتشاف الهنّات والثغرات التي يمكن أن تعتري المنجز الإبداعي.
* لماذا حينما نتحدث عن الذائقة الفنية، لابد من أن نستحضر العامل الثقافي؟
لأن الذائقة ترتبط بالوعي وقدرة المتلقي على الفهم، فما يتركه العمل الفني بكل أشكاله المتنوعة من اثر فكري ونفسي يشكّل بالنتيجة رصيداً معرفياً لدى الإنسان الذي ينجذب إليه وينفعل به ويتذوقه بالرغم من أن الكثير من الناس قد يكون جاهلاً به أحياناً. ومن هنا يمكن الحديث عن التربية الاجتماعية في توفير فرص للارتقاء بالذائقة الجمالية داخل أي مجتمع بشري، من أجل تهذيب طباع الناس والارتقاء بأحاسيسهم وفتح نوافذ جمالية على رؤية مستقبل ينبض بالأمل، لاسيما إذا كان ذلك المستقبل المنشود مشدوداً بماضٍ خالد وتليد ومشهود بأصالته، وإبعاد الناس عن أجواء ممتلئة بدخان القبح وسواده وفظاظة وغلظة وظلمة العنف القاتل لمعاني الإنسانية بلغة ابن خلدون. لا يمكن لأي جهد ثقافي ان يترسخ في أي مجتمع ولا أن يأتي أكُله ما لم يرتدي ثوباً فنياً جمالياً. الفن يسري في حياة الإنسان منذ طفولته الأولى، كما يسري الدم في جسده، إنه أشبه بعروق الذهب التي نجد تشكيلاتها في الصخر وتراب الأرض. لأجل ذلك فهو بحاجة إلى الوقوف على قوانين دورته أو إلى القدرة على الحفر، لا في كل مكان، بل لابد من توفر المعرفة، الهادية إلى مكامنه، ومن الأدوات الملائمة لاستنباطه بمعنى تفعيل النبط(لا الاستنساخ).
* ما الذي يتوجب أن توصي به كناقد وفنان؟
نوصي بالتوجه نحو الخبرة المحلية لكل بلد لتكون محفزاً على خلق علاقات تربوية جديدة من عناصر مستمدة من الحياة الاجتماعية، ومن جانب آخر الاعتماد على الخبرات والتجارب التربوية العالمية المتقدمة والمتجددة وأهمها تلك التي قدمها العالم التربوي جون ديوي، فقد كان الفن بالنسبة إليه يشكل خبرة، تمتلك عناصرها العادية، وعلى الفنان والمربّي أن يكون مجرباً باعتباره يعبر عن خبرة ذات طابع فردي تتصف بالعمق والإبداع. نجد جون ديوي يربط الفن بالتجربة أو الخبرة، فقد قدم نظرية “واقعية” للفن من خلال كتابه القّيم ( الفن كخبرة) مبيناً علاقة الفن بالواقع وربطه بجوانب الفعاليات الإنسانية الأخرى. فالأساس الذي يبني عليه ديوي نظريته في الفن هو تعريفه للفن بأنه خبرة، محاولاً الاقتراب من الواقع من خلال ربط الفن بالتجربة او بالخبرات، فخلع عليه صفة النفعية العملية الوظيفية، وسبغ على الخبرات الإنسانية بصفة عامة طابعاً جمالياً، كما أنه عالج بشكل مفصل ظاهرة انعزالية الفنان ومتحفية الفن وانفصال الفنون عن الخبرة العادية، حيث رأى بأن الخبرة الجمالية ليست خاصة فقط بأصحاب الأمزجة الارستقراطية الراقية في المجتمع دون غيرهم من الناس، بل إن لكل شخص تجربته الجمالية ذات اللون الخاص بشرط مجيئها بشكل متناسق ومشبع وباعث عن الرضا والتذوق نتيجة لما يصاحبها من تفاعل حيوي، وبالتالي فهو ليس الواقع تماماً، بل حصيلة التقاء المبدع بالواقع وتفاعله معه.
* هذا الكلام يدعوني لأتساءل هل تنطبق تنظيراتك نحو الجمال حيال الإنسان العربي وهو يعيش صراعاً نفسياً واقتصادياً؟
الحاجة إلى الفن تتمثل في الشروع بالبحث عن عوامل إشباعها لتتراءى لنا بلونها وصفاتها، كذلك الفن، فهو ابن الحياة ورفيق الإنسان منذ وجد على الأرض، حتى وإن كانت تلك الخطوات تمر بمخاطر وصعوبات وانتكاسات وانكسارات، والفن هو الصاحب في كفاح اليوم الجبار من أجل الانتصار وسيادة الإنسان على الظلم والعبودية والتخلف والسلفية بكل أشكالها وقيمها، وعلى كل المساوئ التي تفرزها المجتمعات الإنسانية وفي كل الأطوار والظروف التي تعيشها. فوظيفة الفن ما زالت، والى يومنا هذا، تعويضاً لانعدام التوازن في واقعنا، وإن كان الفن لا يقبل الاختزال في هذه الوظيفة. وكلما ازداد هذا الواقع اضطراباً، ازدادت الحاجة إلى الفن لتصبح ضرورة لخلق التوازن المطلوب، فالفن تعويض كبير ومهم في حياة الإنسان، وهو وسيلة تكاد تكون ـ غاية وضرورة ـ فاتحة لآفاق الحرية لإيجاد التوازن بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، ذلك أن الإنسان يسعى لأن يكون أكثر اكتمالاً، فهو لا يكتفي أن يكون فرداً منعزلاً وخائفاً، بل يسعى إلى الخروج من جزئية حياته الفردية إلى كلية يرجوها ويتطلبها، إلى كلية أكثر عدلاً، وأقرب إلى العقل والمنطق، وأنأى عن القبيح والدميم، وأقرب إلى الأحسن والأجمل.
* هل تعتقد أنه بهذا يريد احتواء العالم؟
نعم إنه يريد احتواء العالم الذي يحيطه، من خلال العلم والفن، ليجعل فرديته اجتماعية متآنسة تحدوه الرغبة في زيادة نضجه واكتماله، لاسيما إذا كان متشوقاً ومشدوداً إلى المطلق وذا قيام، بقيم سامية، طلباً لشهود المنافع، وإقامة للرعاية والحماية، غير مقيم سكون كالميت ولا قاعد خائف ولاهث من الإرهاب الذي يحيطه ويحبط عزائمه.