الهند: بلاد تمزج صلواتها بالموسيقى

848

 أحمد مختار/

ما يميّز الثقافة الهندية أنها نابعة من حضارة غير منقطعة، أي مازال شعبها يمارس نفس العادات والتقاليد والديانات منذ آلاف السنين. وتعود حضارتهم إلى الدرافيديين وهم أقدم الشعوب التي سكنت شبه القارة الهندية والذين من المحتمل أن يكونوا من شعوب البحر المتوسط من ذوي البشرة السمراء وجاءوا إلى الهند من شمالها الغربيّ، وأسسوا حضارة مدنية في وادي نهر السند، ازدهرت نحو عام 0052 قبل الميلاد. ويعد الدرافيديون ثاني أكبر أعراق الهند من حيث العدد حيث يصل عديدهم إلى 5.752 مليون بما يمثل 52% من سكان الهند اليوم.

موسيقاهم

نستنتج من ذلك أن موسيقاهم وآلاتهم هي نفسها منذ آلاف السنين مع بعض التطورات الطبيعية التي يفرضها الزمن. والموسيقى الهندية الكلاسيكية التراثية هي التي تُعلّم شفاهياً أي من المعلم إلى التلميذ مباشرة وليس تلك التي في الأكاديميات، وهذا أحد العوامل التي جعلتها تحافظ على استمرارها كل هذه السنين.

في زيارتي الأخيرة إلى الهند، وحين حان وقت صلاتهم في أحد معابد الهندوس (وهي أقدم ديانات الهند وأكبرها من حيث عدد معتنقيها ونسبتهم 81% من عدد سكان الهند الذي يتجاوز المليار) شاهدت عازف السيتار (آلة موسيقية هندية شبيهة بالعود ذراعها طويل وعريض) قد أعلن عن قيام الصلاة بالعزف عليها لأنهم يعتقدون أن الموسيقى تنقّي تفكير الإنسان من مشاغل الحياة وتجعل علاقته مع الله مباشرة وتبعث الطمأنينة والاسترخاء. لذا فالموسيقى من هذا المنطلق جوهرية في حياتهم بل أن بعض الآلات الموسيقية مقدسة وتعتبر صوت الله على الأرض.

مكانة الفنان

على هذا الأساس والمفهوم فإن الفنان الموسيقي شخص ذو أهمية وحضور كبيرين في الثقافة الهندية برغم تعدد الديانات والأعراق. وللإشارة فقط فإن الحكم الإسلامي لأجزاء كبيرة من الهند استمر لمدة ثمانية قرون ونصف. حيث كانت الشريعة الإسلامية هي الأساس العام لحكم البلاد، ويبلغ عدد المسلمين في الهند حالياً نحو 123.5 مليون نسمة ويمثلون نسبة 12% من السكان، ولكننا نجد أن أشهر الموسيقيين هم من عائلات مسلمة ويحملون أسماء عربية مثل رحمت شاه خان ومنصور خان وذاكر حسين وآخرين.وقد تسربت الموسيقى الهندية لممارساتهم الدينية، فمثلاً الأذان يؤدى على (الراكا- مقاماتهم) والذكر على إيقاعاتهم التراثية (تالا). حتى أصبحت آلة السيتار أكثر شعبية في الغرب منتصف السبعينات بفضل الموسيقار الهندي الراحل رافي شانكار، وذلك من خلال إبداعه الفائق وسيطرته وتحكمه بهذه الآلة، لذا ينظر له باعتباره من الأشراف في الهند.

العلاقة مع الحيوانات

يمكن مشاهدة الحيوانات في الشوارع وهي تشارك الإنسان في أغلب الأشياء وترافقه بالسير من دون المساس بها أو حتى نهرها، فهنالك علاقة فطرية بينها وبين الإنسان أفضل من العلاقة المعقدة بينهما في الثقافة الأوروبية. سألت “كرشنا” مرافقنا عن هذه العلاقة فقال (الاهتمام بالإنسان لدينا في المجتمع منذ الطفولة وتربيته منزلياً على بعض الثوابت الهندية منها: المسالمة، حب الطبيعة، وحب الحيوان؛ وهذه مهمة العائلة والبيئة .. قبل أن تكون مهمة التربية عبر الحكومة).

أما الشجرة فهي من فضائل الطبيعة على الإنسان، وشاهدت أنهم يتعاملون معها بقدسية، وقد تجد من يقول أن ذلك موجود في ثقافتنا أيضاً، لكن ما يميز الهند أن هذه المقولة تطبق عملياً، لذا فالشجرة ثروة الإنسانية وخاصة شجرة جوز الهند التي تعد ثروة وطنية وفاكهة مقدسة.

الاحتفاء بالأدب

شاهدت كيف يحتفى بالآداب والفنون، ومن بين المحتفى بهم أديب الهند الأهم في العصر الحديث والناشط باللغات الهندية والانجليزية “رابيندرانات طاغور” الذي فاز بجائزة نوبل 1913 والذي ينظر له باعتباره أحد أشراف الهند عبر التاريخ، والكل يردد اسمه في المحافل الأدبية التي حضرتها ويقرأون له في المعابد مع موسيقى السيتار وفي الأمسيات الدينية التي شاهدتها، فلا فرق كبيراً أو تعارضاً بين حياتهم وديانتهم.

حضرت إحدى المناسبات وهي يوم الاحتفال بغاندي محرر الهند من الاستعمار، وبرغم تعدد الأديان التي تصل إلى 180 ديانة، والأعراق التي يفوق عددها الـ400 في بلد تعداده تجاوز المليار نسمة وله ثلاث عطل رسمية فقط، إضافة إلى ذلك تقيم الولايات الـ 28 والأقاليم المختلفة أياماً أخرى تخصصها للمناسبات المحلية.

الفساد

الفساد يهيمن على الطبقة السياسية في الهند إلا ما ندر، وهو أحد العوائق التي تعرقل الهند عن أن تصبح دولة عظمى، حيث هي سابع اقتصاد في العالم الآن، وثالث جيش من حيث التسليح والتعداد، وهي دولة نووية ومن الدول التقنية والصناعية الأولى. ولكن برغم تفشي الفساد بين السياسيين بقي المثقف والفنان بمنأى عن ذلك ويسمو برسالته فوق كل اعتبارات إلا ما ندر. ونقاء المثقف ساعد الناس على فهم ما يحيكه السياسي وعلى التفريق بين الصالح والطالح بينهم وجعل الجماهير تستخدم أداة الانتخاب والتصويت الديمقراطي في معاقبة المفسد ولا يؤثر بها الخطاب العرقي أو الدينيّ لأن العمل هو المقياس الحقيقي للمصداقية.

وبرغم هذا فالكثير يعتقدون أن الفساد مدعوم خارجياً ويحتاج إلى غاندي جديد.