بليغ وسعدون.. رحلة نغم لن تتكرر
عادل مكي/
لم يحظ أي مطرب عراقي مثلما حظي به الفنان سعدون جابر من فرصة تاريخية ذهبية كبرى سجلها التاريخ له وللفن العراقي، وذلك عندما لحن له الملحن العبقري الفذ بليغ حمدي، ملحن الكبار أمثال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ووردة الجزائرية ومياده الحناوي وعفاف راضي، أربعة ألحان لأربعة نصوص غنائية عراقية للراحل كريم العراقي، خرجت منها أغان رائعة بأبهى صور لحنية،
تلك الأغاني لم تخدم إعلاميا كما كان مخططاً لها، وذلك بسبب ظروف الحرب وتداعياتها التي انعكست سلباً على الغناء العراقي آنذاك.
اللقاء الأول
أول لقاء لبليغ حمدي مع الفنان سعدون جابر كان في الكويت عام 1984، وكان بليغ قد سمع بصوت سعدون وانتشار أغانيه، اللقاء دار عند أحد المقربين من بليغ وسعدون، واتفق بليغ مع سعدون على تلحين أغان له، وبأنه سيزور العراق بعد سنة، اي عام 1985، وفعلاً زار بليغ العراق واجتمعا كثيراً في دار الفنان سعدون جابر في حي القاهرة، وكان سعدون قد أحضر مجموعة أشعار(أغان) لأكثر من شاعر، لكن بليغاً اختار الكلام المفهوم عربياً وعراقياً، فوقع الاختيار على نصوص الشاعر كريم العراقي. بعدها اتفق بليغ بأنه سيسجل الموسيقى في القاهرة ثم يذهب بها إلى لندن، لأن سعدون جابر كان في ذلك الوقت يدرس في لندن بجامعة (إسكس)، وفعلاً في سنة 1986 ذهب بليغ إلى لندن حاملاً الأغاني الأربع، وهي (مشوارك) و (من الأول ياحبيبي) و (رحنه) و (أريدك). وقد سكن بليغ في شقة سعدون جابر في لندن طيلة فترة التحضيرات، ثم جرى التسجيل الموسيقي لتلك الأغاني في القاهرة.
شخصية كريمة
قدم سعدون مبلغ عشرة آلاف دولار ثمناً لتسجيل الموسيقى، لكن بليغ حمدي رفض أخذ المبلغ، فقال له سعدون جابر (والله هذي الفلوس مو مني، هذا المبلغ من شركة النظائر الكويتية)، وقد أكد لنا (ستار جابر)، شقيق الفنان سعدون، أنه قام ووضع المبلغ في حقيبة بليغ، الذي رفض أخذ المبلغ إلا بعد عناء طويل، وعنه قال سعدون جابر (والله لم ولن أرى في حياتي أو أشاهد شخصاً كريماً لا تعنيه الأموال كبليغ حمدي، فهو لا يفكر بالأموال إطلاقاً، بل يهمه كيفية نجاح اللحن على كل شي). ثم سافر سعدون الى الكويت لكي يقوم بإدخال صوته على الأغاني في شركة النظائر الكويتية. وعن تفاصيل لقاء الفنان سعدون والملحن بليغ حمدي، فإنه حين جاء الى العراق سكن في فندق بغداد على حساب التلفزيون العراقي آنذاك، وجرت التحضيرات لتلك الأغاني في منزل الفنان سعدون جابر في حي القاهرة ببغداد، حيث كانت هناك ورشة عمل طويلة.
زيارة كربلاء والنجف
ثم حدثت المفأجاة الكبرى حينما طلب بليغ حمدي من سعدون جابر بأنه يرغب بزيارة مدينتي كربلاء والنجف المقدستين، فأرسل سعدون مع بليغ صديقاً له اسمه جواد توماس كي يرافقه في تلك الزيارة، الذي أخبر الفنان سعدون جابر أن بليغاً اشترى مجموعة كبيرة من الكاسيتات والأشرطة الصوتية للمقتل الحسيني، وأشرطة و(لطميات) حسينية متعددة بلغت أكثر من خمسين (شريط كاسيت)، كي يستفيد منها نغمياً وإيقاعياً لأنه يرى فيها ثروة موسيقية كبيرة عظيمة. لقد أحب بليغ حمدي العراق، وكان حريصاً على تذوق أنواع الأطعمة العراقية، لكنه كان يحب أكل الكباب العراقي كثيراً.
بليغ وكريم
يقول الراحل كريم العراقي: اتصل بي الفنان سعدون جابر وقال لي “بليغ حمدي في بغداد يريد أن يراك لأنه اختار أربعة نصوص من أشعارك كي يقوم بتلحينها لي. ذهلت ولم أصدق أن هذا العملاق الذي غنى له جهابذة الفن العربي وكتب له أكبر شعراء الأغنية العربية، يريد ان يختار نصوصاً من أشعاري، وفعلا جرى اللقاء في غرفته بأحد فنادق بغداد، وحين التقينا أنا وهو وسعدون جابر، لاحظ سعدون ارتباكي والتوتر الشديد، فقال لبليغ (كريم متوتر قليلاً)، فابتسم بليغ وأعاد لنا سرد حكايته في اللقاء الأول مع أم كلثوم حين كان في بداية عطائه، وعن كمية القلق التي كانت تملأ صدره، ثم أزاح توتري قائلاً (نحن يا كريم نتبع خطى مشاعركم، ونسير وراء الكلمة المميزة والصورة المبتكرة والإحساس الصادق، نحن الذين ننتظركم لتوقظوا ثورتنا، أنت وغيرك من المبدعين). ثم طلب مني أن أقرأ قصائدي وأن ألقيها بصوتي قائلاً (أنا أول مرة ألحن زجلاً غير مصري). فقرأت وأغمض هو عينية سارحاً مع الكلمات، ثم طلب مني أن أسجل تلك القصائد بصوتي على شريط كاسيت ليأخذه معه عند سفره، وافترقنا بعدها، فأنجز بليغ حمدي ألحان تلك الأغاني ليغنيها فيما بعد الفنان سعدون جابر. لقد كانت تجربة كبيرة وشرفاً عظيماً أن يلحن لي أعظم ملحني الزمن الذهبي الأسطورة الفنان والملحن الكبير بليغ حمدي. لكني لم أستطع السفر الى القاهرة بسبب ظروف الحرب، وحين سنحت لي الفرصة في الذهاب الى مصر بعد سنوات طويلة، وصلتها متأخراً، فقد رحل عن عالمنا ذلك الملحن العبقري الذي ارتقى بالموسيقى العربية الى مديات جديدة لم تكن مألوفة للأذن العربية والعالمية. إن بليغ حمدي ظاهرة فنية وإنسانية كبيرة ستبقى خالدة أبد الدهر.”