بورتريهات ناظم رمزي تدوين انعكاس الظواهر على الحيوات البشرية

1٬036

جاسم عاصي/

البورتريه صياغة فنية عالية بمقاييس الرؤى الحاذقة. فهي صياغة تلاحق الأثر والتأثير بشكل مباشر وغير مباشر. وذلك لأنها تجتزئ من جسد الإنسان القسم الأعلى، لتدقق فيه، وتدوّن ملامحه بحساسية عالية، كي تُظهر التأثير الذي يتركه المؤثر عليه . ونقصد فيه الوجه، فهو حمّال رؤى تقود إلى تفسير وبحث عن دلالات كامنة في هذه الشفرة من تقسيماته، أو تلك التي انحرفت عن موضعها، كي تستجيب إلى المؤثر بمقياس الفعل ورد الفعل.
فالقول الشعبي ( المكتوب باين من عنوانه ، وسيماهم في وجوههم) يستند إلى دالة ذات بلاغة عالية في اشارتها التي تقود إلى تقصي العلة والمعلول، أي معرفة الظواهر التي قادت إلى مثل هذا المتغيّر الذي انعكس على الوجه بما يُفيد في دراسة الظواهر.
والفنان (ناظم رمزي ) يستعين بهذا الملمح الفني من أجل تدوين انعكاس الظواهر على الحيوات البشرية، ضمن تاريخ يعج بالمتغيرات. ففي صورة التقطها لرأس رجل يظهر عليه الفرح. النموذج من عامّة الناس، أي أنه نموذج شعبي بيشماغ وعِقال، ويرتدي الدشداشة وهي زي شعبي. لكنه يظهره على ضحكة واسعة الآفاق، فم مفتوح على صف أسنان وعينين مغمضتين من أثر ضغط الضحك. واللقطة مأخوذة من أسفل قامة الرجل، مما برّز ملامح تغضنات الرقبة والحنك، تدرجاً إلى الوجنتين والأنف.إن الانفعال المتروك من أثر الضحك تركز على رقبته التي بدت أكثر متانة وخضوعاً إلى مؤثر الضحك. إنها ضحكة الفرح بعد طويل الحزن. أو بهجة الإنسان البسيط الذي يستقبل الحياة بتلقائية.
نجد أن اللقطة اختيرت بعناية بالرغم من تلقائية الفعل ورد الفعل عند النموذج، وهذا يظهر من خلال تقنية الصورة كاعتنائها بالضوء والظِل، مؤكداً بذلك بلاغة الأسوّ د والأبيض في التعبير عن الأفعال وردودها، وعن الظواهر وتأثيراتها. إن العناية بزوايا النظر، أحدث نوعاً كبيراً من التوازن في رصد مكملات الصورة، أجزاءها وكلياتها، بحيث بدت على حالة من كشف المتداول الذي أتت عليه. ولعلي أتطرف حين أقراً مكملات الصورة، اعتبارها أنموذج لبوستر إحدى معارض الفنان في خارج العراق. لذا فوجود عبارة:
(Iraq…the land and the people)
دالة على إظهار بهجة العراقي ضمن كل مواصفات الأزمنة القاهرة للذات في صورة أخرى لامرأة عجوز تنظر بعينين كليلتين، تعتمر زياً شعبياً عمامة ونقاباً حد أسف الأنف، لا يظهر من هيئتها سوى الأنف والعينين والجبين، واليد المرفوعة كما لو أنها تُجيب على سابق كلام من الآخر. هذه المكوّنات للشخصية أظهرت الجسد بكامل رشاقته، بدليل ما ظهر منه، كما وأن ملامح القسم المكشوف من الوجه عكس نوعاً من الاطمئنان النفسي. وهو دليل القناعة التي تحلى بها الإنسان البسيط، الذي تشكلت شخصيته دون تعقيد. إن الاختيار وقع من الناظر (عين الإنسان وعين الكاميرا) للتدليل على ظاهر الغنى الذاتي بما هو قائم وجاري في حياة الشخصية. فهي أنموذج غير منفعل، بل يبدو أكثر قناعة بالذي عليه. بحيث استقبل عين الكاميرا برحابة نظر، دون أن تظهر عليه ردة فعل معاكسة. إن التلقائية التي عليها الشخصيات الشعبية، أظهرت كثيراً من عمق الرؤى ومقومات الاستقراء الذاتي في كشف الظواهر ومسبباتها. وهذا ما يُطلق عليه (الوعي الطبقي) الذي يكتسب النتائج ويصل إليها عبر الملامح والسمات الظاهرة على معظم مكوّنات الجسد، وخاصة الوجه، الذي يعكس الانفعالات وردود الأفعال. وكما هو ملاحظ على لوحة المرأة العجوز، كوّن ملامحها وهيئتها وحتى رفع يدها دال على قناعة طبقية. معكوسة بنظرات تأملية إلى عين الكاميرا.
وفي صورة أخرى كانت ضمن كادر فولدر المعرض الذي أقامته جمعية الفنانين العراقيين، يضم رأسيّ فتاتين بدويتين بكامل قيافتهما البيئية، ونقصد أزياء البيئة ( العصّابة المذيلة بالخيوط، والخزامة في الأنف، وبما سلط الفنان تقنيته من ظِل وضوء واختيار لزاوية النظر. حيث أكسب الصورة مهارة انعكست على حركة العيون وأظهرت الابتسامة المتوارية وراء الخجل الأنثوي. ولعل النقش (الوشم) زاد الوجهين وسامة كذلك أسفل الحِنك والرقبة . إن الوشم في بيئة الريف والصحراء سمة تجميلية مكملة لوسامة المرأة.
ولعله يؤكد من خلال الصورة ما ذكره في معرض حديثه عن المعرض. إذ أكد على الأفكار التي تلتقط إشاراتها عدسة الكاميرا ، والتي تشكّل السدى لها بقوله (أعتبر أن العدسة الناجحة هي التي تستطيع أن تقدم الأفكار الناجحة أيضاً ومهمتها في هذا أن تكون الأفكار في هذا العصر هي البحث وراء لحقيقة وراء الأفكار) وهذا يكفي لتأكيد ما استنتجناه من صوّر البورتريه أو سواها من اللقطات الفنية، التي أكدت على توّلد الأفكار والحيثيات البنيوية التي هي دوافع لكشف الظاهر والباطن من حيوات الصورة، التي ننعتها بالناجحة. إذ نجد على لقطة المرأتين نوعاً من حالات التأمل الملتحق بظاهرة الرصانة عند المرأة. وما يؤكد ذلك نظرة المرأة الأخرى إليها دالّة على هدوئها وخفرها سواء إزاء الكاميرا، أو هي حالة مما تتحلى به المرأة البدوية.المهم هنا هو اختيار اللقطة، وتأكيد إشاراتها الفنية الدالة على معاني.