(بونراكو) مسرح الدمى الياباني

91

د. حسين علي هارف/
يشكّل مسرح الدمى الياباني (بونراكو) مع مسرح (النو)، ومسرح (الكابوكي)، تراثا ثقافياً ومسرحيا أصيلاً ومعروفاً في اليابان، وفي العالم على حدٍّ سواء. فقد أعلنت منظمة اليونسكو أن مسرح الدمى الياباني (المتفرد في خصوصيته الفنية والثقافية) هو أحد أعمدة التراث الإنساني العالمي (الشفهي وغير المادي) .

يسلط كتاب (مسرح الدمى الياباني) الذي ضم مجموعة من المقالات المترجمة من قبل د. قاسم محمد الأسدي، الضوء على هذا المسرح ونشأته وتطوره وقواعده الفنية، فضلاً عن الفنانين الأساسيين من محركي دمى ورواة وعازفين على آلة القيثارة المصاحبة لعروض هذا المسرح. وقد سمي مسرح (بونراكو) بهذه التسمية على اسم مروّج يُدعى (يومور بونراكو)، الذي قام بتشجيع هذا النمط من العروض في القرن التاسع عشر .ويتميز مسرح بونراكو بطابعه الذكوري الصرف، فالمؤدون هم من الرجال فقط، وقد شاع هذا المسرح في مدينتي أوساكو وطوكيو، كما أنه يحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الشعبية .
مهارات كبيرة
وعلى الرغم من استخدامه للدمى، لا يُعد البونراكو مسرحاً للأطفال، ولقد كُتب العديد من مسرحياته من قِبل أعظم مسرحيي اليابان، وهو (شيكاماتسو مونزايمون) في القرن السابع عشر .
يمتلك محركو دمى هذا المسرح مهارات كبيرة تمكنهم من تقديم شخصيات المسرحية وكأنها شخصيات حيّة على المسرح، إذ يجري التحكم في الدمى التي يبلغ ارتفاع كلّ منها نحو متر واحد، من قِبَل محرك يرتدي رداءً أسود على المسرح الواسع، في حين يروي الرواة القصة بطريقة معبّرة للغاية بمصاحبة موسيقى آلة (الشاميزين). أما قصص المسرحيات فإنها مأخوذة من مجموعات القصص المأساوية التي تصوّر الحروب الدموية في الحقبة الإقطاعية في اليابان، التي تمثل الأدب الدرامي الياباني على أعلى مستوى .
صعوبة وتعقيد
لكلّ دمية من دمى بونراكو إطار عام، وكذلك لكلّ أداء مسرحي. وقد جرى تحسين آلياتها بحيث يمكن تحريك أصابعها وأفواهها وعيونها. ويختلف حجم رأس الدمية وفقاً لنوع الشخصية، فآمر الحرب القوي -مثلاً- يمتلك رأساً أكبر من القروي المتواضع، كما تتباين بشرة الدمى أيضاً حسب الشخصية، من البُنّي الى الأبيض النقي. وتمثّل بعض الرؤوس أنواع شخصيات متكررة، مثل الصبية الجميلة، والصبي الصغير القروي، وأحد سكّان القرية… الخ .
وتتميز عملية تحريك دمية البونراكو بصعوبتها وتعقيدها، إذ يكون تشغيل كل دمية بواسطة ثلاثة محركين، أحدهم للساقين والآخر للذراع اليسرى، فيما يتولى المحرك الرئيس تحريك الجسم والذراع اليمنى والرأس، بما في ذلك التحكم في تبديل تعابير الوجه .
كما تتطلب عملية التحريك الجماعية هذه -وفقاً لذلك- انسجاماً تاماً بين المحركين وتنسيقاً دقيقاً عالي المستوى، ولا يكون محركو العرائس الثلاثة الذين يتحكمون بدمية واحدة مخفيين، بل يمكن رؤية محرك الدمى الذي يظهر وجهه بدون تعبير بجوار رأس الدمية، واثنين آخرين من محركي الدمى يرتدون أقنعة وملابس سوداء، وهما مرئيان أيضاً للجمهور .
دراما تعبيرية
يقوم الراوي في البونراكو برواية القصة والحوار، موفراً أصوات الشخصيات برفقة عازف (الشاميزين) الذي يُعد جزءاً لا يتجزّأ من المسرحية، وليس مجرد موفّر للأصوات الموافقة .وعلى الرغم من أن الدمى المتحركة هي النقطة المحورية البصرية في مسرح بونراكو، فإن الكثير من المتفرجين يركّزون اهتمامهم على الراوي الذي يجلس برفقة عازف الشاميزين بالزي الرسمي الكامل على مقعد منخفض فوق منصة صغيرة في الجانب الأيمن من خشبة المسرح . ويخلق التعاون الوثيق بين محركي العرائس الثلاثة انطباعاً بالحياة في الدمى، فتعاون الراوي وعازف الشاميزين يرفع النص المكتوب الى مستوى الدراما التعبيرية .أما خشبة مسرح بونراكو فهي بناء معقد الى حد ما، والسمة الرئيسة لها هي المساحة التي توفرها لمحركي الدمى، التي تكون أعمق بنحو متر واحد من الخشبة الفعلية، وهذا يمكّن محركي الدمى من تحريكها على ارتفاع مناسب للجمهور. كما يتضمن هيكل المسرح العديد من (الدرابزينات) التي يمكن إرفاقها بخلفيات مرسومة على الجوانب.
ويستخدم بونراكو عادة مشهداً ملوّناً، وهو ما يعكس جماليات الزخارف المسرحية المعقدة لكابوكي. كما يمكن تغيير الخلفية الملونة المنقولة والعوازل الخشبية بسرعة لتشكيل – على سبيل المثال – منزل فيه حديقة مع دواخله، ما يتيح للجمهور رؤية ما في داخل المنزل وما في خارجه. كذلك قد تستخدم بعض الحيل الخاصة، إذ يمكن إنشاء بحر عاصف بواسطة موجات منقولة زرقاء، ويستحضر انطباع المشي أو السفر عن طريق وضع خلفية مع لوحة منظر طبيعي من جانب الى آخر.
وتيرة الأحداث
وكما هو الحال في مسرح (النو)، فإن وتيرة الأحداث في البونراكو بطيئة ومملة الى حد ما، وغالباً ما تتأصل الحبكة في الأخلاق الكونفوشيوسية، وكثيراً ما تتميز بشخصيات تتنازعها صراعات بين الواجب والحب. في بعض الأحيان قد يستغرق ترديد كلمة واحدة أربع دقائق، وكما يقول أحد الرواة “بمجرد أن تنسجم مع الايقاع الهادئ والبطيء سوف تستمتع بالمسرحية.”
وبالطبع فقد أضيفت بعض الأجزاء التي تبدو مملة بشكل متعمد لجعل ذروتها تبدو أكثر كثافة. ويزودنا كتاب مسرح الدمى الياباني، الذي يُختَتم بتقديم سرد لأهم المصطلحات المستخدمة في مسرح بونراكو، يزودنا بما تحتويه أشهر مسرحيات بونراكو من قصص الحب والانتحار، مع وصف دقيق لتسلسل الأحداث والمشاهد بدءاً من لحظات الافتتاح التي تبدأ بضرب قطعتين من الخشب معاً لتنبيه الجمهور والممثلين بأن كل شيء جاهز لبدء العرض .