بين النومي والصمون.. الأغنية الشعبية في وادي النسيان!

192

محسن العكيلي /

حين كنا نتسابق للوصول إلى إحدى الحفلات الشعبية، التي كان يحييها مطربون شعبيون كان لهم حضور جماهيري واسع, كنا نتزاحم مع الحضور طمعاً في رؤية ذلك المطرب، الذي تأخذنا كلمات أغنيته إلى عالم الخيال، حالمين بالحبيبة المستقبلية.
كانت تبهرنا تلك الكلمات وذلك الصوت الشجي الذي يتغلغل داخل الروح. تلك الذاكرة الحيّة لدى جيل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وربما لا يشعر الكثيرون من أبناء الجيل الجديد بتلك اللذة التي كنا نعيشها آنذاك.
وفي بعض الزوايا الخفية، ما زال هناك ما يحفظ في ذاكرة الشجن في مخيلتنا, إذ ماتت تلك اللحظات تدريجياً بعد صراع طويل مع المرض، ورغم محاولة إبقائها على قيد الحياة وبث الروح فيها بجميع الأشكال، إلا أن جميع المحاولات فشلت، واغتيلت الأغنية الشعبية ولم تتبق منها سوى حلاوة الروح، وروائح من الزمن الجميل, تهفو إليهما روح من يشتاق إلى سماعها.
جزء أصيل
بكلمات بسيطة دارجة تعبّر عن مشاعر غالبية طبقات المجتمع العراقي، نجحت الأغنية الشعبية في نيْل مكانة كبيرة، استطاعت من خلالها منافسة الغناء الكلاسيكي، حين قدم معظم نجوم الغناء في مسيرتهم اللونَ الشعبي للاستفادة من جماهيريته. لكن التأثير القوي للأغنية الشعبية تلاشى ولم يستمر مع تطوّر الزمن, مع انتشار موجة الأغاني الهابطة وفتح الساحة الغنائية على مصراعيها أمام كل من هب ودب، بحيث تراجع حضور نجوم الأغنية الشعبية على الساحة الفنية، إيذاناً بانتهاء عصرها وطي صفحتها في وادي النسيان.
الأغاني الشعبية ونجومها كانا جزءاً أصيلاً من التراث والثقافة العراقيين، حين كانت الأغنية تجسد القيم الاجتماعية مقيدة -إلى حد كبير- بالأطر الأخلاقية، حتى كلماتها كانت تمثل مزيجاً من القصص والحكايات وقصائد العشق البريء. وكلنا نتذكر رائعة عبادي العماري (فصلية)، وكيف أنها انتقدت التقاليد البائسة آنذاك المتمثلة بالفصلية العشائرية. فنانون آخرون أصبحوا فيما بعد أسماء لامعة في سماء الأغنية، أمثال حسين البصري وصباح الخياط وحاتم العراقي وباسم العلي وآخرين.
نجوم الغناء العراقي، ولاسيما الأسماء الكبيرة، ارتووا من نهر الأغنية الشعبية في بداية مشوارهم الفني، لذا كانت أغنياتهم تعبيراً حياً عن واقع معاش، ملتزمين بأركان الأغنية الثلاثة: النص واللحن والأداء.
موجة الانحراف
الغناء الشعبي أخذ بالانحراف عن مساره فجأة, فلم تعد في الأغاني الشعبية قصة ولا حكاية، بل إنها تحولت إلى صراخ وضجيج مع موسيقى صاخبة هجينة, وكلمات هابطة لا تحتاج إلى شاعر، بل مجرد ترديد للكلمات السوقية التي تأتي على شكل موضات موسمية. ربما تقع المسؤولية على عاتق الجميع، من شعراء وملحنين ومطربين، فمنهم من انزوى في ركن النسيان، ومنهم من ركب الموجة بحثاً عن لقمة العيش، إذ لو كان ثلاثي الأغنية، الشاعر والملحن والمطرب، على قدر كبير من الثقافة، لما سمحوا بتمرير أغنيات تسيء إلى الذوق العام.
السعي في الوصول إلى الشهرة بات أكثر رغبة من الفن ذاته، مع فرص متاحة بشكل كبير وسهل للوصول السريع، ناهيك عما تفرزه مواقع التواصل الاجتماعي، وسعي شركات الإنتاج إلى الربح المادي على حساب القيمة الفنية، كما أن الانحلال الأخلاقي، الذي انتشر كالنار في الهشيم، أسهم في ترويج ما يسمى بالأغنية (الطاكة)، التي تحمل كلماتها ألفاظاً وإيحاءات غير لائقة, خلطة غريبة من كلمات بذيئة وتعبيرات ساقطة تؤذي مشاعر من يسمعها، لا مناص للمواطن البسيط من سماع هذه الأغاني، الذي تضطره ظروفه اليومية إلى ركوب سيارات النقل الخاص، حيث يكون فريسة سهلة لتلك الأغاني.

زومبيات الأغنية
إن عدم المبالاة بحفظ تراثنا الموسيقي جعل الساحة الفنية مرتعاً للدخلاء على الأغنية العراقية, الذين اقتحموها بأسلوب فوضوي، إذ أننا نرى صرح الأغنية يتهاوى أمام أعيننا بعد غزو (زومبيات) الأغنية الحديثة, وبرغم الكم الهائل من الندوات والمقالات، لكنها فشلت في وقف هذا الزحف, وبات عنكبوت الغناء الهابط ينسج شباكه حول تاريخنا الغنائي، فارضاً نفسه في تعدٍّ واضح على ذائقتنا الفنية, ونحن لا نمتلك حيال هذا الأمر إلا القبول بالواقع الذي اقتحم بيوتنا وفضائياتنا في سعي ممنهج لهدم الذائقة الفنية.
الآن وبعد كل هذه الفوضى الغنائية وسيادة العشوائيات الفنية, كدنا نفقد ذوقنا السليم في الاستماع، وبات يحق لنا أن نتساءل: لماذا فشلنا في الحفاظ على موروثنا الشعبي الغنائي، وفي التصدي لغزو الأغاني الهابطة ومن يتغنون بها ويصيغون لحنها وكلماتها؟!!