بين غربتين ووطن.. نغم فؤاد تختار مثواها الأخير

392

مجلة الشبكة /

الأسى في غربتين ماثلٌ وقائم، حلوُهُ مرٌّ ومرّهُ أمَرّ. قد يختلف التعريف عن معنى الغربة، فالغربة التي تصاحب المرء مبكراً وترافقه منذ سنيّ عمره الأولى لا تختزل ذلك المعنى، وحين تعيش الغربة في الوطن وتحملها معك أينما حللت لن يحتويها الزمان والمكان ولن يمحو آثارها كثير من الأشياء.
نغم فؤاد سالم، الممثلة والمخرجة العراقية، من الفنانات اللاتي عشن الغربة بكل أشكالها، بدءاً بفقد الأب والأم. ورغم منجزها المسرحي إلا أن الإعلام لم ينصفها بتسليط الضوء على ذلك المنجز، وهذه غربة أخرى عاشتها في وسطها الفني، غادرت الوطن وعاشت في مغتربها الاختياري في تركيا حتى وافاها الأجل.. رحمها الله.
أسرة فنية
تنتمي نغم فؤاد إلى أسرة فنية متجذرة بالفن، والدها هو الفنان الكبير فؤاد سالم، ووالدتها الفنانة مي جمال، وجدُّها لوالدتها المطرب والملحن جمال حجازي، وجدّتها لوالدتها منيرة جمال الممثلة في فرقة حقي الشبلي منذ بداية الثلاثينيات.
منذ طفولتها عشقت التمثيل، لكنها كانت تميل للإخراج أكثر، عملت في المسرح الجاد في فرقة الـ (تسعين كرسي) للمخرج الراحل خضير الساري، التي ضمت حينها نجوم المسرح: ساهرة عويد، وحياة حيدر، ومنير راضي، وعلي داخل، وخضير أبو العباس، والراحل نجم الربيعي. وحين أكملت دراستها في معهد الفنون الجميلة قررت التخصص في الإخراج، وقد وُفقت فيه وحصدت جوائز عدة في مهرجانات عراقية وعربية. هي من الفنانات اللواتي يُجدن تقديم التراجيديا والكوميديا، فضلاً عن أنها من المخرجات المسرحيات البارزات في العراق.
شاركت تلفزيونياً في مسلسلات عدة منها: (برج العقرب)، و(زمن حيران)، و(سيدة)، و(نكرة السلمان)، و(سائق الستوتة). وفي المسرح كان لها تفوق واضح إذ شاركت في كثير من المسرحيات تمثيلاً منها: (حياة مدجّنة)، و(الطيور أيضاً)، و(البيت القديم)، و(العجوز المراهق)، كما أخرجت مسرحية (تراتيل الأحزان) ومسرحية (مرايا) المُعدّة عن مسرحية (عربة اسمها الرغبة) لـ(تنيسي وليامز)، وهي من المسرح الجاد، وحازت ست جوائز، منها: أفضل ممثلة، وأفضل مخرجة، وأفضل سينوغرافيا.
أنشأت فرقة مسرحية تعنى بالطاقات الشابة، لكنها حوربت وجوبهت بعراقيل كثيرة، وبرغم ذلك قدمت تلك الفرقة أعمالاً مسرحية مميزة.
ذاكرة مُرّة
عن علاقتها بأبيها الفنان الراحل فؤاد سالم كانت لدى نغم مشاعر غريبة وخليط عجيب، فقد تعلقت به عن طريق أغنياته، أو عن طريق اتصال هاتفي قد يتحقق أو لا يتحقق. علاقتها بفؤاد سالم علاقة ذكريات طفولة مرّة ترتسم بذاكرتها صورة لم تنسَها أبداً، فحين كانت طفلة عمرها أربع سنوات أيقظها والدها من نومها، وكانت تلك هي اللحظات الأخيرة لنغم مع فؤاد سالم قبل مغادرته العراق مرغماً.
لم تدرك نغم ما الذي كان يجري حينها، تجمُّع الأقارب وذرفُ الدموع وأحضان أبيها التي تختلف هذه المرة. ربما شعرت في قرارة نفسها أن هذا الوداع مختلف جداً، وربما هي المرة الأخيرة التي ستحتضن فيها أباها, رحل والدها أمام عينيها وهي تنظر إليه يجرُّ حقيبة سفره مختفياً في الظلام، تلك الصورة المُرّة ولَّدت في نفس نغم غربة مبكرة عاشتها سنين طوالاً.
وبعد فراق دام أربعاً وعشرين سنة التقت نغم أباها مرة أخرى عام 2003 في البصرة، وكان اللقاء في بيت عمها، توقفت الكلمات حينها وكانت العيون هي من تتكلم. نظر أحدهما إلى الآخر وكانت الكلمة الوحيدة التي لها معنى في تلكم اللحظات كلمة (بابا)، هي ما استطاعت نغم أن تنطقها قبل أن يغمى عليها, وحين أفاقت تعلقت بثياب أبيها وتذكرت أيام مغادرته حين كانت طفلة، كأن ذلك الموقف قد يتكرر، فهي لا تريد فراقه مرة أخرى.