تحوّلات الملصق السينمائي من الرّسم الحِرفي إلى التصميم الرقمي

427

حسن جوان /

ابتدأت السينما كإحدى الأعاجيب على المستوى الشعبي، وربما غازلت أولى الكاميرات الفوتوغرافية رغبة بشرية سحيقة في الإمساك بالزمن ودهشة أن ترى نفسك مجسّداً. لم يعد التخليد مقتصراً على المحاكاة عبر الرسم، ولا البطولات تغدق على قصيدة شاعر من أجل توصيف الذكرى. تلك الرغبات وجدت ملاذها لاحقاً، لا عبر الصورة الفوتوغرافية الساكنة وحدها، بل طمحت نحو صورة متحرّكة تشبه عمل السحر في إعادة رؤية الواقع الذي مضى بكل شخوصه وقصصه وأصواته.
فن ودعاية
لم تكن وسائل الإشهار والدعاية متوفرة على شكلها الحالي في بواكير اكتشاف الصورة الفيلمية المتحركة، فكانت حرفة الفنان في رسم بوسترات دعائية يعوّل عليها كثيراً كقوة جذب للجمهور الممتلئ بالتساؤلات والفضول. وهناك، كانت مهمة الرسامين الأوائل العاملين في حقل الترويج لمختلف أنواع العروض السينمية لا تقتصر على جودة موهبتهم في تصوير الشخصيات ودرجة التشابه بين صورهم وما هم عليه كأبطال في عرض مدهش، وإنما كانوا يقومون بمهمة إخراجية بحدود قماشاتهم أو أوراقهم الكبيرة ليعمدوا إلى توليف لقطات مختارة متداخلة مزينة بعناوين بارزة بالتشاور مع مخرجي الأفلام وبقية الفنيين.
وقد أفاد فنان الملصقات السينمائية كثيراً، لا من موهبته وتراكماتها فحسب، بل من دراسة الأعمال الفنية العظيمة واللوحات الكلاسيكية التي رسخت مفاهيم المنظور الخطي واللوني ومفاهيم الكتلة والضوء والظل، ليخرج فيما بعد بنماذج تعدّ اليوم مقتنيات متحفية تؤرخ لتلك الحقبة الأوروبية الصانعة لفن القرن العشرين الأكثر بروزاً وتأثيراً: الفن السينمائي.
مصر والعراق
ترتكن مصر إلى تقاليد ومؤسسات سينمائية انفردت بها منذ أواسط القرن الماضي، حين اختارتها شركات الإنتاج كوسط ملائم لصناعة السينما، فكانت أم الدنيا بقوة جذبها لمئات المواهب، داخل حدودها وخارجها، موطناً مركزياً لكل العمليات التي تواكب صناعة الفيلم. لذا كانت المدرسة المصرية في صناعة الملصق السينمائي مشغلاً رائداً أفاد من تقنيات الصناعة العالمية وطور أنموذجه المحلي ليخرج بحصيلة خاصة نجحت كثيراً في تمثيلها الترويجي للفيلم المصري. وما زالت هذه المدرسة تجدّ في الالتحاق بتقنيات صناعة الملصق المعاصرة بمظاهرها الرقمية أو الغرافيكية أو المختلطة.
في العراق لم تكن الأسباب التي توافرت لمصر متاحة للغاية، باستثناء محاولات محدودة رغم وجود رسامين متمكنين في مختلف الأوقات، فلم تتأسس لدينا حرفة صناعة الملصق بالمعنى المشار إليه، وإنما كانت هناك صناعة بسيطة تعتمد فرش الخامة التي تمتد إلى أمتار عدة وطلاءها برسوم منتقاة بحسب اجتهاد الرسام لغرض عرضها على واجهات دور السينما البغدادية والعراقية مرفقين ملصقات الفيلم المنسوخة عن الأصل من قبل شركات الإنتاج العربية أو العالمية.
دورة حياة الفيلم
لا يمكن للتطور أن يكون انتقائياً، فهو منظومة شاملة تسير بأرجل عديدة، فما إن يولد شيء حتى يأخذ طريقة باتجاه النمو نحو تمامه وذروته. السينما ليست استثناء من هذا الفعل، فقد تعاظمت إمكاناتها وسحبت معها كل أدواتها الرئيسة باتجاه هذا التعاظم. ولم يكن الملصق السينمائي خارج إرادة التطور الهائل الذي تحوّلت رؤاه وبعض أساليبه في تلك المرحلة، سوى أنها أبقت على العنصر البشري-الرسام- محوراً أساساً في تنفيذ وسيلة جذبها التقليدية ومكاسب شباك التذاكر، فلم يكن وقت التغيير الكبير قد حان بدخول البشرية عالم التكنولوجيا وثوراتها التي غيرت شكل الحياة بأكملها.
مطاردة الفيلم
كانت فرصة مشاهدة فيلم منحصرة في دور السينما، وكان على من يرغب في مشاهدة فيلم ما أن يقصد إحدى دور العرض، أو ينتظر بعد مدة تطول أو تقصر-ربما سنوات- ليشاهد الفيلم عبر شاشة التلفزيون بعدما يحقق أرباحه في دور العرض. ثم حدث أول التحولات بتوفر أشرطة التسجيل عبر الفيديو كاسيت، ومن ثم ظهر سريعاً قرص السي دي ليؤذن بمرحلة تنهي الكثير من الانتظار والنزهات. هنا، كان الملصق قد ناله هو الآخر تحوّل حاسم عبر دخول الرسم إلى عالمه الرقمي، فلملم الرسام علب ألوانه وفرشاته، ليفسح المجال قسرياً نحو تقنيات جديدة أكثر كفاءة ودقة وعلى أيدي نخب من المهرة الذين لم يكن شرطاً توفرهم على دَرَبة الريشة والسنوات المضنية من التجريب. إنه فن يتطلب قوانين وعلوماً وتقنيات وحسابات تقود إلى أفضل التأثير.
لا يمكن الحسم هنا إن كانت هذه المرحلة الهائلة من التطور قد أدت إلى نهاية حرفة سابقة، أم ولادة مهنة جديدة. ربما تكون التحولات هي امتداد خلاق منفتح على آفاق أكثر رحابة وتنوّعاً.