تذكرون شارلي شابلن وتنسون الطفل “كوجان” !!

619

جواد غلوم /

كم هو مؤسف أن يُعرّف فنانٌ موهوب لعبَ أدواراً مهمة في السينما – وهو في الرابعة من العمر- منذ أول ظهورها، وهو الطفل الصغير المعجزة، لكنه يشتهر بقضية قانونية تخصّ المحاكم ؛ فلا علاقة لها بموهبته ولا بإبداعه، حتى أن شارلي شابلن، بجلالة قدره السينمائي، طلب منه أن يشاركه التمثيل واستعان بأبيه وأمه استرضاءً لهما لأجل أن يضمّه إلى أفلامه الأولى.
لقد عرف هذا الفنان الذي بدأ التمثيل منذ صغره وهو في سنّ الرابعة بقانون بعيد تماماً عن الفن السينمائي؛ إنما يخصّ أموال الأطفال القاصرين والحفاظ عليها إذا كانوا دون سنّ الحلم ولم يبلغوا الرشد.
ففي الولايات المتحدة سنّ المشرعون قانوناً سُميَ قانون كوجان ( Coogan Act) وقد تم إقراره لحماية أموال الأطفال غير البالغين من مطامع أهليهم وأقاربهم.
فمن هو المدعو “جاكي كوجان” ولماذا سمي هذا القانون باسمه؟
ولد الصغير جاكي سنة /1914 في لوس أنجلوس من أبوين فنانين راقصين يعملان في مسرح المدينة وانضم إليهما ابنهما وهو في الرابعة من عمره ولفت أنظار المتلقين بشكل مبهر، بعدها قامت هذه العائلة الفنية بجولات في بقية أنحاء كاليفورنيا. وشاءت الصدفة أن يكون شارلي شابلن حاضراً في إحدى مسرحياتهم الراقصة وعزم على أخذه من والديه ليشاركه أعماله الفنية والسينمائية لاحقاً.
بدأ هذا الطفل المعجزة بالتمثيل في الأفلام الصامتة الصعبة الأداء، ولاسيما حين يكون موضوعها كوميدياً، فكيف لممثل أن يُضحك جمهوره وهو لا يتكلم ولا يحاور ولا تتاح له إلاّ الحركة وتعابير الوجه وقدرة البانتوميم الجسدية على خلق الابتسامة والبهجة في شخوص المتلقين؟
أول عمل سينمائي ناضج له حينما أوكل اليه دورٌ صغير في فيلم (أيام سعيدة A Days pleasure) فأجاد التمثيل ببراعة، بعدها لم يتردد شابلن في تكليفه بدور أكثر حضوراً في فيلم )ذا كِد( وقد شاركه البطولة.
ويمكن القول إن هذا الفيلم عُدّ منطلق إبداعه التمثيلي، إذ لفت الأنظار إليه إعجاباً وجعله نجماً لامعاً منذ نعومة أظفاره، وحظي بنجاح منقطع النظير وتزاحم المشاهدون على شبابيك التذاكر لمشاهدته، فزادت إيراداته المالية بنحو يفوق التصور، إذ يحكي الفيلم قصة متشرد من صعاليك الشوارع يلتقي بالطفل الرضيع كوجان الذي رمته أسرته في الطرقات، حيث يقترنان معاً في حياة البؤس والصعلكة طوال أحداث الفيلم تماماً مثل حياة أبٍ مقترٍ خالي الجيب يرعى ابنه اللقيط يعانيان كثيراً من المخاطر طوال رحلتهما الشاقة في الحياة البائسة.
بعدها توالت الأدوار السينمائية عليه وصار كوجان مشهوراً جداً يشار إليه بالبنان أينما حلّ، وجمع ثروة كبيرة تقارب الأربعة ملايين دولار، وهذا الرقم يعدّ ثروة هائلة في سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي وهو لم يبلغ سنّ الحلم بعد. لكن هذا الثراء الوفير ليس بيدهِ وإنما كان تحت إمرة أمه التي ترمّلت بعد وفاة والد كوجان، لكنها سرعان ما تزوجت زوجاً جديداً لعوباً ولعبت لعبتها في البذخ وبحبوحة العيش مع زوجها الجديد وأسرفت أيّما إسراف في أموال ولدها وأهملت ابنها ورعايته بحيث ظل هذا الفتى الفنان المبدع يعاني الإفلاس وشظف العيش رغم رصيده الهائل المحجوز تحت وصاية الأم القاسية القلب.
من هنا بدأت الصدمة الكبيرة التي أوجعته حقا إذ تجرّأ وزار أمه في بيت زوجها وتوسّل إليها بغية استرداد ولو جزء يسير من ثروته الهائلة التي أودعها لديها، لكنها صدّته صدّاً وكأنها عدوّته اللدود، وطردته شرّ طردة، فدفعه هذا الموقف المشين منها إلى رفع دعوى قضائية في محاكم كاليفورنيا لاسترداد أمواله أو حتى جزءٍ منها، لكن مسعاه كان خائباً إذ لم يكن هناك قانون يعطي هذا الفتى الحق باسترداد أمواله.
هذه القضية لفتت أنظار القضاة فكان لابد من سنّ قانون يعيد الحق إلى نصابه ليأخذ كل صاحب حقٍ حقه بمن في ذلك الأطفال الذين لحق بهم الحيف من والديهم. وعلى إثر قضية الممثل الشاب كوجان تم سنّ (قانون كوجان)، لكن بعد فوات الأوان، إذ أن أمواله تبددت بسبب البذخ واللامبالاة والهدر المفرط في ثروة هذا الصبي الذي أصبح شاباً يافعاً محروماً من ثروته وعاش فقيراً معدماً إلاّ من أجور أدواره التمثيلية التي واصل نشاطه فيها، لكن الأجيال اللاحقة أمّنت على أموالها وبقيت محفوظة مضمونة باعتبارها ضمن أموال القاصرين حتى يكبروا.
ورغم كل هذه الصدمة الموجعة التي لقيها من أقرب مقربيه (أمّه العاقّة به) لكنه لم يستسلم وبقي مخلصاً لفنّه وأسند له دور صغير ولكنه مؤثر في المسلسل التلفزيوني الذائع الصيت وقتذاك The Addams Family، وتبع هذا المسلسل فيلم (Daddy) عام 1923 فانتشله من الفقر الذي عاش فيه جراء ضياع ثروته السابقة وحصل على أجرٍ عالٍ نسبياً من المسلسل.
أما الصدمة الثانية التي تلقّاها فهي حادثة موت أبيه في عام 1935، ما سبّب له نكوصاً في حياته الاجتماعية والفنية معاً، ولم تعد الأضواء تسلط عليه فانطوى على نفسه نسياً منسياً طيلة سنتين معتكفاً مع نفسه دون أي دور سينمائي. بعدها حاول أن يفتق تلك الوحشة عنه فقرر الزواج من ممثلة كانت رفيقة له في عام 1937 وعاشا معاً ثلاث سنوات انتهت بالطلاق بينهما بعد خلافات وخصومات صادمة.
وحينما اندلعت الحرب العالمية الثانية خدم كوجان في الجيش الأميركي، وبعد انتهاء الحرب عاد إلى هوليوود، وهو خائب المسعى ولم يحصل على دور مهم سوى أدوارٍ صغيرة طلباً للارتزاق ليس إلاّ، أسهمت في إخفات لمعانه الاول.
لكنه استعاد ألقه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وقدّم اعمالاً لافتة في المسلسلات التلفزيونية، لكنه بسبب خيبته التي لم ينسها مع والدته وفشل زواجه الأول بدأ نجمه يأفل شيئاً فشيئاً، وهذا ما لاحظناه في أدواره الهزيلة الأخيرة بسبب عوزه وحاجته إلى المال وهو المليونير الذي ضيّعت أمّه أموالَه مع زوجها الجديد، وظلّ يعيش مرارة الحياة والإجحاف من أقرب الناس إليه (أمّه ثم زوجته) حتى مات كمداً عام 1984 إثر أزمة قلبية.