جبار رشيد.. صوت الشمس وشاعر الثلج والنار

1٬680

#خليك_بالبيت

محسن إبراهيم /

شاعر روحه مثل نورس مداه وسع السماء والإبداع خارج سرب المألوف، حروفه تفيض من روح عشقت الأرض والناس، بطقوس مخيلته ولمساته التي تداعب حروف القصيدة رسم ملامح الكلمات، نسج بوحه بشغف شعري أخاذ، كل قصيدة من قصائده تنطق إبداعاً، يمنحك خيالاً رحباً وأنت تتأمل حروفه، فترسم بمخيلتك عوالم خاصة لا يأخذك إليها الا هو.
هو شاعر ينزف حرفا إن كتب أو صمت، منذ منتصف التسعينيات سبر أغوار القصيدة باحثا في مناطق مجهولة ومغيبة لم تطأها مخيلة الشعراء، سافر بعيدا إلى عوالم خاصة، خلقها بنفسه متحررا من معطف النسخ في الشعر.
لفت انتباه عمالقة الشعر، لقبه الكاطع بشاعر الثلج والنار وردد عريان ابوذياته، حوّل القصيدة إلى كائن حي ليستقر على وهج الكتابة ولذة التمرد، متفردا عن أبناء جيله، منذ ذلك الحين كان جبار جرحا مفتوحا على مدى دروب مدينته، (أريد الموت من يمر علي ميخاف بس يخجل) بهذه الكلمات رثى جبار رشيد نفسه مبكرا.

ها جبار؟
في مجلس عزاء جبار رشيد كان الصمت سيد الموقف، ففي الصمت عزاء،عيون ترنو بدهشة لجبار وهو يحزم أمتعة الرحيل ويترك في المكان مرارة الوداع، يمزق جدار الصمت بين حين وحين صوت من المعزين مناديا (ها جبار)، جبار الذي كان حاضرا بابتسامته الخجولة كان حاضرا في عيون الشعراء، كنسمة هواء عذبة في ليلة صيف قائض، كان حاضرا في شفاه الاطفال مثل نشيد محبب يرددونه، في بكاء نساء منطقته اللواتي أبكينه مثل أخ كان لهن السند الوحيد، لم يكن لجبار أخت ترثيه وحين استشهاد أخيه الاصغر آلمه هذا الموقف فأطلق عنان حروفه قائلا: (ماعندك خوات يلطمن عليك؟ انا اختك وشك زيجي اعله طولك).
لم يكن الكلام مباحاً كما قال الشاعر علي الفريداوي صارخا، حين مات جبار مات الكلام، جبار الانسان وأيقونة مدينة الثورة (الصدر). لم يكن جميع الحضور من الشعراء والاعلاميين بل كان الحضور جماهيريا، غاب جبار فحضر الفقراء والمساكين، لأنه البهي في حضوره وفي غيابه، فحياته الشخصية أمثولة للمبدع المعذب بقضايا الناس، هو روح هائمة في سماء الأفكار تبحث عن معنى يناسبها وينحت حضوره على وجه الحياة، رغم أنه فضّل أن يفترش مكانا بعيدا عن أضواء الشهرة.

الشاعر الإنسان
عامر عاصي أحد الشعراء الذين حضروا مجلس عزاء جبار رشيد تحدث قائلا: سمعت جبار رشيد في أواسط التسعينيات، في جمعية الشعراء الشعبيين، وقد بدأ مع جيل من الشعراء الشباب، ولكنه استمر بوهجه الأول، شاعراً متفرداً في هرمه الصوري وبناء جملته ومضامينه التي مزجت الغزل باللوعة والحياة بتناول بسيط ولكنه عميق جدا، كان شعلة من الشعر والحيوية والتوق إلى الحياة على الرغم من عتمة الحقبة التي بدأ فيها بكتابة الشعر، لفت انتباه رموز الشعر؛ عريان السيد خلف وكاظم اسماعيل الكاطع في وقت مبكر من تجربته الشعرية، لم يهتم بتسويق صورته إعلامياً، ولكن الإعلام هو من جاء إليه، فأضحت قصيدته زاداً يومياً لشرائح واسعة من الشباب، كان جبار رشيد إنساناً مبدعاً قبل أن يكون شاعرا مبدعا، فكان سلوكه الشخصي وحياته اليومية قصيدته الأجمل، يعرفه فقراء مدينته ومساكين بغداد ويحبونه كما يحبه متلقو نصه، فكان يفرغ جيبه عند أول فقير يعرفه ولا يبالي بما بقي من النهار، لم يكن فقيراً، ولكنه كان ينفق كل مورده في يومه ويسعد بذلك، ولا يتحدث به لأحد، كان جبار رشيد بسيطا حد الطفولة، يفيض فرحاً بالحياة، يحب الناس ويحبونه، لم يدخل في مشكلة يوماً، وليس له أعداء، رغم صراحته القاسية في الاجابة حين يسأل عن رأي. كتب عن الوطن والناس والحب والغزل والموت والحياة والحسين والفقراء، وللحشد والمتظاهرين والعمال والعاشقين وصباغي الأحذية والمتسولين والمرأة وكل ما يحدث في الوطن، ولكنه لم يكن شاعر مناسبة، ولم يمدح أحداً يوماً. أخيراً، في الساعة الأخيرة من مجلس عزائه، قال أحدهم لنذهب، لقد انتهت (فاتحة) جبار رشيد، قلت له لا، بل الآن، ونحن نذهب، ستبدأ (فاتحة) جبار رشيد، وقد تستمر عقوداً من الاستذكار والتغنّي بشخصيته ونصوصه وابتساماته وروحه الفواحة بربيع عابرٍ للمواسم.

معين الفقراء
وتحدّث الشاعر جواد الحمراني:
للحديث عن الراحل جبار رشيد قد لا تسعفنا مساحة قليلة من الوقت، جبار رشيد شعرياً وإنسانياً يحتاج إلى وقت كثير وكبير للحديث عنه، كإنسان من النادر أن تجد إنساناً يتمتع بهذه الانسانية العالية، كان كتلة إنسانية كاملة تتحرك وفق ما يمليه ضمير القلب، لم يدخر شيئا لنفسه بل كان للكل وكان مثالاً للإيثار والكرم والضمير الحي، هذه الانسانية كسبها من الشعر الحقيقي والفهم الحقيقي للشعور والضمير الانساني العالي الذي يملي عليه شعره، فينعكس على تصرفاته حبا، شعريا جبار رشيد علامة فارقة في تاريخ الشعر العراقي، هو من جيل صعب، ولد ولادة قيصرية صعبة بعد جيلين، جيل مظفر النواب وكاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف والجيل الذي تلاه جيل محمد الغريب وغني محسن وهاشم العربي ورحيم المالكي، جيلان من الصعب جدا أن تجد نفسك بعدهم شاعرا، جبار رشيد لم يكن شاعراً أوجد نفسه بعد هذين الجيلين فحسب بل أثبت أن شعره متفردا وحفر في الصخر شاعريته وتجربته لم تشبه تجربة أخرى، فقدانه في هذا الوقت هو فقدان أحد أساطين الشعر الشعبي العراقي، هو خسارة لجميع الفقراء والمساكين الذي لم يكن يتأخر في مساعدة أحد منهم، لم يتأخر للحظة في أن يخرج ما في جيبه ليضعه في جيب فقير أمامه، لروحه المغفرة.

كتب عن الأم الشامخة
الشاعر غسان المكصوصي قال عن الراحل:
بداية معرفتي بجبار رشيد منذ عام ١٩٩٨، شاركني أغلب المهرجانات والأماسي الشعرية في بغداد ومحافظات عدة، جبار رشيد ابن مدينة الصدر انحدر من بيت بسيط وعائلة كبيرة، كان كإنسان صاحب إيثار ونكران ذات عال تجاه عائلته وأصدقائه، خرجت من عباءته أسماء لامعة إعلاميا ومن دون ذكر الأسماء.
كان صديقاً صدوقاً لكل أصدقائه، حتى في زعله جميل، كان يكتم أوجاعه والعوز الذي يمر به، نجح كشاعر وإعلامي من خلال دعمه لشعراء جيله والشباب الذين تلوا جيله، كان أكبر همه إسعاد من حوله، وإرضاء جمهوره من خلال كتاباته، متواضع جدَّاً غير متعال.
جبار ترك محبة كبيرة بين الشعراء والجمهور أكثر لتواضعه وطيبته، كتب أجمل الابوذيات وأجمل القصائد بأسلوبه وطريقته المتفردة في كتابة الشعر، كان يلمع ويطعم القصيدة الوطنية باستذكار أمه بطريقة جميلة عن طريق إبراز الأم العراقية الشجاعة غير المنكسرة.