جرائم الخيال حينما تكون أداة للتـــصالح مع العالم!

622

محمود الغيطاني/

في الفيلم المجري Kills on Wheels “قتل على كراسي متحركة” يرغب مخرجه أتيلا تيل Attila Till بالتأكيد لنا على أن الخيال من الممكن له أن يكون هو الأداة الأساسية للتصالح مع العالم، أو هو الأداة التي من خلالها يستطيع الإنسان إحداث شكل من أشكال التوازن النفسي لأصحاب هذا الخيال.

يوفق المخرج في ذلك بشكل كبير من خلال السيناريو الذي كتبه حينما يقدم لنا فيلماً يدور في إطار الجريمة من خلال ثلاثة من المقعدين على كراسي متحركة حيث تجمعهم الظروف؛ لينخرط ثلاثتهم في هذا العالم من الجريمة.

قصة خيالية

توفيق المخرج الحقيقي في إحداث الدهشة التي هي الركيزة الفنية الأساسية التي يعتمد عليها الفيلم تعتمد على الانقلاب الذي يحدث في النهاية حينما يتبين لنا أن كل هذا العالم الذي انخرطنا معه وصدقنا أحداثه مجرد قصة “كوميكس” مُتخيلة قام برسمها اثنان من أبطال قصة الفيلم، حيث كانا حريصين على أن يرسما نفسيهما في قصة “الكوميكس” التي يعملان عليها باعتبارهما بطلين في هذه القصة، بينما المجرم الأساس في القصة هو الأب الذي لم يره ابنه في حياته مرة واحدة – بعدما هجر زوجته بعد ولادة هذا الابن- سوى من خلال صورة فوتوغرافية واحدة أخذها من أمه، وهي الصورة التي اعتمد عليها في رسم شخصية الأب داخل القصة باعتباره المجرم الذي انساقا خلفه في عالم الجريمة. في مشاهد ما قبل التيترات Avant titre نرى البطل المقعد “زولي” Zoltan Fenyvesi وصديقه باربا Adam Fekete يعملان على رسم مجموعة من الاسكتشات “الكوميكس” المتعددة التي هي نفس مشاهد الفيلم التالية فيما بعد، مما قد يوحي للمشاهد بأن الفيلم هنا يتحدث عن شابين مقعدين في بداية العشرينات يمارسان الهواية الوحيدة التي يعرفانها، وهي هواية رسم “الكوميكس”، حيث يُعدان قصة عن هذا الفن. لكن من خلال الأحداث يتبين لنا أن هذين الشابين المقعدين يتعرض لهما روباسوف SzabolcsThuroczy، وهو رجل مقعد أيضا في منتصف العمر خرج من السجن حديثا ويعتدي على زولي بالضرب ثم يتخذهما صديقين فيما بعد. ولأن الشابين يصادقانه فهما يتورطان معه في العديد من الجرائم ويشاركانه فيها من خلال استخدام سيارة “باربا”، وهو بالرغم من كونه قعيداً مثلهما إلا أنه يستطيع المشي إلى حد ما بشكل فيه من الصعوبة التي تجعله يستخدم كرسياً متحركاً مثلهما، ومن ثم فهو الوحيد فيهم القادر على قيادة السيارة لتنقلاتهم. يؤمن روباسوف بأنه يستطيع استعادة حبيبته السابقة التي كان يعرفها قبل إصابته التي جعلته قعيداً، كما يؤمن بأنه سيعود أفضل مما كان؛ ولأنه ماهر في القتل، فضلاً عن كونه مقعداً فرجل المافيا اليوغوسلافي يعتمد عليه اعتماداً كاملاً في تصفية أعدائه باعتبار أن الشرطة لا يمكن لها أن تتشكك في رجل قعيد على كرسي متحرك؛ الأمر الذي يجعله يرتكب إحدى جرائمة في وسط ميدان في العاصمة بودابست أمام الجميع ولا يتشكك فيه أو في صديقيه أحد، ولكن حينما يكتشف رجل المافيا أن روباسوف له صديقان آخران يعلمان بأمر هذه الجرائم يهدده بالقتل إن لم يتخلص من هذين الشابين قبل إكمال عملهما مع بعضهما البعض.هنا يدعو روباسوف صديقيه لرحلة من أجل اصطياد السمك.

مزحة سخيفة

وحينما يذهب ثلاثتهم إلى البحيرة يقوم بدفعهما في الماء اعتماداً على أنهما غير قادرين على السباحة بسبب إصابتهما، لكنه لا يستطيع أن يتركهما للغرق، ولا يلبث أن يرمي بنفسه أيضا في البحيرة خلفهما لإنقاذهما، ويقوم أحد المارين بقارب بإنقاذ الثلاثة وهنا يبرر روباسوف لصديقيه الأمر بأنه كان مجرد مزحة سخيفة منه. يكتشف رجل المافيا اليوغوسلافي أن روباسوف لم يقتل صديقيه كما ادعى، وهنا يجعله يؤدي مهمة القتل الأخيرة من أجل قتل آخر من يرغب في التخلص منه، لكنه بعد هذه العملية يعمل على التخلص منه ومن صديقيه. يفشل رجل المافيا في التخلص من روباسوف الذي يصمم على الانتقام لنفسه ولصديقيه من هذا الرجل، ومن ثم يعملون على وضع جهاز موبايل في سيارته لمعرفة أماكن تحركاته من خلال التتبع، وحينما ينجحون في الوصول إلى منزله يقتلونه، لكنه ينجح في قتل روباسوف قبل أن يطلق زولي الرصاص على رجل المافيا. هنا تنتهي قصة الفيلم التي نكتشف أنها ليست من الحقيقة في شيء، بل هي مجرد خيال يدور في ذهني كل من زولي وباربا، حيث يرسمان قصة الكوميكس التي يشتركان فيها، وحرصا من خلالها على أن يكونا موجودين في هذه الرسومات بشخصيهما، بينما نكتشف أن شخصية روباسوف هي شخصية والد زولي الذي سبق أن هجره هو ووالدته إلى ألمانيا وقد رسمه في القصة من خلال الصورة الوحيدة التي يمتلكها له، أي أنه جعل من شخصية والده المجرم روباسوف صديقهما الذي قُتل في نهاية الأمر. ربما كانت شخصية روباسوف/المجرم هي الشخصية الأهم في هذا الفيلم؛ حيث كان رغم جرائمه المتعددة وتميزه بالقسوة أحياناً فيه لمحة كبيرة من الأبوّة والحنان تجاه الصديقين الشابين لاسيما زولي، وهو ما رغب المخرج في قوله لنا، أي أن زولي أراد أن يتغلب على مشاكله النفسية العميقة ومن غضبه على والده من خلال رسمه في قصته التي يرسمها في صورة مجرم أحيانا، وشديد القسوة في أحيان أخرى، لكنه لديه الكثير من مشاعر الأبوة والحنان تجاهه، وهنا استطاع زولي أن يتواءم مع شخصية والده التي يحبها كثيرا رغب غضبه الشديد عليه. يوافق زولي على إجراء العملية الجراحية بالأموال التي أرسلها أبوه من ألمانيا، كما يقوم بإرسال كتاب الكوميكس الذي رسمه إلى أبيه من دون أية رسالة أخرى أو توضيح، فهو يريد أن يبلغه بمدى حبه له من خلال هذه القصة التي رسمها، لاسيما أنه يبدي حبه هذا حينما يقول لنفسه أثناء تغيبه في المخدر قبل إجراء العملية: “دائما ما كان يروقني اسمه، روباسوف، يبدو اسماً قوياً”. ينجح زولي وباربا في عرض قصتهما في معرض للمعاقين وتروق القصة لإحدى الناشرات لاسيما أنها أعجبها كونهما رسما نفسيهما داخل القصة، وتعدهما بنشر القصة. ربما كان أهم ما في الفيلم السيناريو الذي كتبه المخرج أتيلا تيل، وهو السيناريو الذي يحدث فيه الانقلاب في نهاية الفيلم لنكتشف أنه ليس مجرد فيلم حركة، أو فيلم عن الجريمة وعالمها، بل هو فيلم يحاول من خلاله الابن المقعد استعادة توازنه النفسي تجاه الأب، حيث يشعر بحبه في قرارة نفسه وإن كان شديد الغضب من تخليه عنه وعن والدته؛ وهو الأمر الذي جعله يرسم الأب/ المجرم في القصة مقتولاً في النهاية وكأن قتله في الكوميكس هو السبيل إلى هذا الاتزان النفسي والتصالح بينهما؛ وهو الأمر الذي جعل زولي يقول لنفسه قبل التغيب في المخدر: “إنه لو أراد مقابلتي الآن فأنا موافق على رؤيته”، كما كان المخرج ذكياً في عدم الكشف عن السيناريو دفعة واحدة، ورغم أنه كان يقدم لنا العديد من الإشارات على طول الفيلم بأنه مجرد قصة متخيلة، إلا أن المشاهد لن يفطن إلى ذلك إلا في اللحظة التي أرادها المخرج/ كاتب السيناريو، وهذا يدل على براعته في الكتابة والإخراج. يُعد الفيلم المجري Kills on Wheels نموذجاً للفيلم السينمائي الجيد الذي توافرت فيه كل العناصر الفنية لنجاحه من أداء وسيناريو وإخراج وتصوير ومونتاج والموسيقى التصويرية التي كانت من أهم العناصر اللافتة في الفيلم أيضا.