جعفر حسن: ستون عاماً من العطاء المتواصل

1٬109

رحيم الحلّي/

فنان اشتغل كثيراً وطويلاً في سبيل وطن أجمل وغناء أعذب ، أُغنياته راسخة في ذاكرة عشاق الوطن وفي ميدان الكلمة والغناء، وفي ذاكرة الحالمين بعراق بلا سجّان أو حاكم مستبد. عاش حياةً مليئة بالأوجاع والأحزان بين سجنٍ وحرمانٍ وفصلٍ أو هجرةٍ طويلة .
حين نتذكر أغنياته او نتذكر اسمه نستحضر زمناً جميلاً حافلاً بالأحلام ومغمّساً بالعذابات، فهو يحلم بعالم جديد وسعيد .

السيرة الأولى

أصبح جعفر حسن من مطربي الإذاعة والتلفزيون في منتصف الستينات، وإثر الانقلاب العسكري (البعثي) في شباط عام 1963 فصل من المعهد ومنع من دخول الإذاعة. ولم تثن تلك الأحداث عزيمته وعشقه للغناء، ففي عام 1964 قام بتسجيل عدة أغانٍ لإذاعة الكويت عن طريق شركة (بشير فون) لصاحبها الفنان جميل بشير، أي أن بدايته كمطرب لم تكن من إذاعة وطنه بغداد بل كانت من إذاعة الكويت. في وقتها كتبت الصحف العراقية الوطنية عدة مرات أن الفنان جعفر حسن ممنوع من الغناء في إذاعة بغداد ويغني في الكويت، بعدها اضطرت الإذاعة ومسؤولوها لقبوله كمطرب معتمد لدى الإذاعة والتلفزيون، فسجل أول أغنية في إذاعة بغــداد من ألحان الملحن المعروف الأستاذ جميل سليم وكلمات الفنان الأستاذ محمد القبانجي بعنوان (كلما أتمعّن برسمك). وكانت هذه الأغنية ملحَّنة كي يغنيها الفنان ناظم الغزالي الذي أجل تسجيلها لحين عودته من سفرته الأخيرة الى لبنان ، لكن بعد عودته للعراق بيوم واحد توفي الفنان الغزالي وبقيت الأغنية تنتظر من يغنيها.. ثم أصبحت من نصيب الفنان جعفرحسن الذي غناها واشتهرت في وقتها برغم الظروف والمضايقات التي كان يلقاها .

أول من لحن للريل وحمد

وهو أول من لحن أغنية (للريل وحمد) للشاعر مظفر النواب عام 1965 حين كان ما يزال طالباً في معهد الفنون الجميلة وتم قبول اللحن من قبل لجنة فحص الألحان والنصوص، ولكنها رفضت من قبل مدير برامج الموسيقى آنذاك لكون الشاعر مظفر النواب والمغني والملحن جعفر حسن من ذوي الأفكار التقدمية اليسارية. وفي هذا اللحن (مرينة بيكم حمد) للشاعر مظفر النواب لم يأخذ الفنان جعفر حسن الفرصة بتقديمه من خلال الإذاعة والتلفزيون بل بقي يغنيه في الحفلات الخاصة بمرافقة بعض الموسيقيين، وكان لحنه سابقاً بعدة سنوات للحن الفنان محمد جواد أموري والذي لحن مقدمة الأغنية بنفس الشكل وعلى مقام الحجاز بينما لحنها جعفر حسن من قبل على مقام العجم وكان الفرق هو الاختلاف بالمقام فقط ويمكن لأي موسيقي أن يحلل ذلك، كذلك تكرر الأمر في الحانٍ أخرى .

إغضب كما تشاء

عام1970 لحّن جعفر حسن قصيدة (إغضب كما تشاء) للشاعر نزار قباني، وكان اللحن معداً للفنانة نجاة الصغيرة بحسب الاتفاق في بيروت مع الشاعر نزار قباني، لكن ظروف الفنان المطارد جعفر حسن تسببت في ضياع فرصة ذهبية لانتشار هذا اللحن الرائع، برغم أن الفنانة أنوار عبد الوهاب قد غنّته عام 1972 بشكل جميل، ولكن نجاة الصغيرة ربما كانت ستنجح أكثر في إيصال هذه الأغنية الى جمهور أوسع .
في عام 1972 فُصل جعفر من الفرقة القومية بعد عودته من مهرجان الجزائر وعاد للنشاط الفني في التربية والتعليم، وفي عام 1973 منع من دخول الإذاعة والتلفزيون بسبب مواقفه السياسية وعدم قبوله الغناء ومدح السلطة والنظام القائم وقتها، كما فصل أيضاً من فرقة الموشحات حيث كان يعزف العود ويساعد الأستاذ روحي الخماش في تدريباتها، وعلى إثر مقابلة صحفية في جريدة التآخي عن اشتراكه في مهرجان الشباب العالمي في برلين وحصوله على ميداليات المهرجان حينها كانت حجّة كافية لفصله ومنعه من دخول مبنى الإذاعة والتلفزيون، بل وصل الأمر الى الإيعاز بمسح جميع أعماله الغنائية من الإذاعة والتلفزيون. وفي عام 1975 فُصل من التـربية والنشاط الفني نهائياً ثم اشتغل بعدها عاملاً في مطبعة طريق الشعب وصحفياً فنياً .

تأسيس فرقة الروّاد

وفي عام 1974 أسس فرقة الروّاد المركزية وقدم العديد من الأغاني الوطنية والسياسية والشعبية. ومن أغانيه الشهيرة التي قدمتها فرقة الروّاد وغناها مع الفرقة التي أسسها ودرّبها بنفسه مع عدد كبير من المنشدين والعازفين: لاتسألني عن عنواني ، يابو علي، عمي يابو جاكوج، للمرأة غنوتنه، عمال نطلع الصبح، قبليني للمرة الأخيرة، وغيرها كثير. في تلك الفترة الصعبة المليئة بالمتناقضات والمخاطر والمجازفات تم اعتقاله، وبعد ذلك اضطر للهرب خارج العراق مشياً على الأقدام الى اليمن الديمقراطية عبر رحلة شاقة للغاية.

رحلة المنفى

رحلته الصعبة خارج الوطن جعلته سندباداً ينتهي قاربه في شواطئ حضرموت في اليمن حيث وجد مسكناً طيباً لقلبه العاشق فأحب مدن حضرموت وأحب ناسها ومغنيها الذين بادلوه ذات الحب والتقدير. في جلسة غنائية في عدن في اليمن الجنوبي في الثمانينات، غنى جعفرحسن قصيدة (أشواق) من ألحان رياض السنباطي وشِعر مصطفى عبد الرحمن . وكان أحد الحضور من مصر موسيقياً سابقاً يعمل في مكتب الأمم المتحدة في عدن، فسجّل الأغنية في السهرة، وأخذ التسجيل الى مصر وكان على علاقة بالفنان الكبير رياض السنباطي وحين استمع السنباطي الى التسجيل طلب منه ان يأتي بالفنان جعفر حسن الى مصر قائلاً (هو ده بيعمل ايه في اليمن ؟) لم يتمكن الفنان جعفر حسن بجواز سفره اليمني وقتها من دخول مصر.

عام 2004 عاد جعفر حسن للوطن واستقر في كردستان العراق بعد رحلة وهجرة قسرية دامت لأكثر من ربع قرن .. فهو يدعو ويتأمل من الفنانين العراقيين الحقيقيين أن يتكاتفوا لإنقاذ ما تبقى من الفنون والثقافة العراقية وإعادتهما لمسارهما الصحيح والحفاظ عليهما.