جنّات الطفل المفقودة “المسرح، السينما، الكتاب، المرسم” كيف السبيل لاستعادتها؟

954

رجاء الشجيري /

(أنا صحوت من الطفولة.. لا تصحُ أنتَ أبداً)
كانت رسالة الشاعر الإسباني أنتونيو ماشادو إلى ابنه إبان الحرب الأهلية..
ولكوني أمّاً قبل أية صفة أخرى، فإن همّي هو ذاته همّ أغلب الأمهات والآباء معي في أن ننقذ أطفالنا من هيمنة ومخاطر الهجمة الإلكترونية التي أخذتهم اليها تماماً، وسلبتهم عوالمهم الطفولية والمعرفية والترفيهية التي هم بأمسِّ الحاجة إليها، هذه العوالم التي ما عادت موجودة أصلاً، للأسف، كسينما متخصصة لهم كما كانت سينما الفانوس السحري، أو العروض المسرحية التي كانت في مسرح المنصور، أو المكتبات، أو المراسم، أو الإصدارات الثقافية وغيرها.. فأين هي الآن؟ لذلك خرجنا بهذه المناجاة والتساؤل والمتابعة علّنا نصل إلى إعادة هذه العوالم إلى أطفالنا..
أحلامٌ ملموسة
كانت ليلة أربعاء لن أنساها، كنت في الصف الخامس الابتدائي، إذ لم أنم إلى الصباح من فرحتي استعداداً للذهاب إلى سينما الأطفال مع (نسرين جورج) برفقة سفرة مدرسية طالما انتظرتها، لم أنسَ أجواء السينما، ترقبنا، مشاهدتنا للفيلم، وقطع اللقطة بعد الجزء الأول من الفيلم ورجوع الأضواء لتناقشنا نسرين عما شاهدناه، وتبعث فينا روح التحليل والتفكير والتساؤل، منتهى الجمالية والمتعة والمعرفة التي كنا نشعر بها كأطفال.. فكل طفل كان يتابع هذا البرنامج المهم، بل ويحلم أن تأخذه مدرسته يوماً إليه.
كذلك كان (المرسم الصغير)، هذا البرنامج الذي كانت طفولتنا معه ومع خالد جبر وهو يصور الحلقات في الحدائق والأماكن الأثرية مع الأطفال، حيث كانوا يرسمون ويتعرفون على آثار المدينة وتاريخها معاً.. كذلك المسرحيات التي طالما أحببناها على مسرح المنصور وغيره مثل مسرحية (قطر الندى) وكمية السعادة التي تغمر الأطفال مع المسرح والعروض المخصصة لهم.. أين هي الآن؟
التساؤل ما زال بألم لما كنا عليه وفقدناه.. أتساءل أيضاً أين عالم مكتبات الأطفال المتخصصة، ورحلاتنا المدرسية والعائلية لها، حين كانت هناك مكتبة عامة للطفل بجوار مدرسة الموسيقى والباليه، وإصدارات الكتب المهمة ضمن منشورات دار ثقافة الطفل التي كانت مخصصة حسب أعمارهم وميولهم وشغفهم ضمن مسلسلات، منها العلمية والقصصية والتاريخية وغيرها، ولا ننسى (مجلتي) و(المزمار) وما لهما من أهمية كمطبوعين متخصصين بعالم الطفل الذي كان متواصلاً معهما بحب وشغف..
رحلة الجدّة
التدريسية المتقاعدة (نجلة محمد) تتحدث إلى أحفادها (الآيباديين) و(البوبجيبن) عن عوالم ونشاطات الأطفال التي كانت تأخذ أولادها إليها، فتقول: كان هناك عالم متكامل للطفل برغم الحصار والحروب، إذ كانت رحلتي مع أطفالي تبدأ بالذهاب إلى المتحف العراقي الذي كان فيه متحف خاص بالأطفال، مع وجود كادر يحكي للأطفال قصصاً مشوقة ومبسّطة حسب أعمارهم عن معالم الحضارة العراقية وقصص التاريخ، لتكتمل الرحلة بأخذهم إلى مسرح المنصور وعروض مسرحيات الأطفال أو سينما الفانوس السحري، بل كان القائمون على قاعات العروض يعرضون فقرات أخرى للأطفال كعروض (هاشم سلمان) قبل أو بعد المسرحية أو الفيلم، ليخرج الطفل وأهله فرحين مستمتعين معاً..
تضيف نجلة: كذلك كنت آخذ أولادي إلى متحف الفن الحديث حيث يقوم هناك رسامو دائرة الفنون التشكيلية أو رسامو دار ثقافة الأطفال بتعليم الأطفال الرسم، ثم بعد ذلك يقيمون لهم معرضاً خاصاً برسوماتهم، فأين صارت هذه النشاطات التي كان يتمتع بها الطفل؟
لماذا فقدنا سينما الطفل ومسرحه؟
أول توقفنا بحثاً عن الإجابات كان مع الدكتور (أحمد حسن موسى) مدير دائرة السينما والمسرح الذي أجابنا: إن دائرة السينما والمسرح أصبحت من المؤسسات ذات التمويل الذاتي، والسينما بكل أنواعها، صناعة وإنتاجاً، تعتمد على ميزانية مالية خاصة، بمعنى أن عدم وجود تخصيص مالي هو السبب في عدم وجود سينما خاصة بالأطفال، إضافة إلى غياب التخصص الدقيق في سينما الطفل، ما تسبب في الابتعاد عنها، أما مسرح الطفل فموجود وفيه عروض حتى الآن، وبسبب عدم دوام المدارس في ظل جائحة كورونا نعمل حالياً على استضافة دور الأيتام.
فيما يجيب عن تساؤلنا أيضاً (د. حسين علي هارف)، رئيس المركز الثقافي العراقي للطفولة وفنون الدمى، فيقول: إن الطفولة العراقية محرومة من كثير من حقوقها التي كفلتها لها الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي كان العراق من أوائل الموقعين عليها.. ومن بين تلك الحقوق الأساسية حق الحياة وحق الصحة وحق التعليم وحق الرعاية.. ولن أبالغ إن قلت إن الطفل العراقي محروم من أبسط حقوقه في ممارسة طفولته من خلال اللعب في ظل غياب فضاءات لعب ومرح مفتوحة أو مغلقة ..
ويضيف: إن شحة الحدائق العامة في الأحياء السكنية واستثمارها تجارياً، وخلوّ المدارس من ساحات رياضية أيضاً بسبب استغلالها واستثمارها كمحال أو لأغراض أخرى، فضلاً عن خلو المدارس من المراسم وقاعات المسرح أو الموسيقى، جعل منها أماكن غير محببة للطفل، بل جافّة وبيئة طاردة. كل هذا في ظل عدم وجود بنية تحتية لثقافة الطفل تلبي احتياجاته من المرح واللهو والاستمتاع، مثل دور السينما وصالات المسارح والقاعات الموسيقية، فضلاً عن المكتبات التي خلت منها حتى المدارس. إذاً فإن الطفولة تعاني حرماناً حقيقياً من أماكن تعمل على تحسين تنشئتها الاجتماعية والثقافية والجمالية .
ويشير هارف إلى عدم اهتمام الإعلام بالطفل قائلاً: حتى الفضائيات العراقية، وما أكثرها، لم تمنح مساحة كافية ووافية لبرامج الأطفال، بل إن بعض الفضائيات لا تمنح أي وقت لهذه البرامج، كذلك لابد من الإشارة إلى المطربين الذين ابتعد غالبيتهم عن إنتاج أغانٍ للأطفال في ألبوماتهم ..
ينهي هارف حديثه قائلاً: هناك تقصير جماعي بحق الطفولة العراقية تتحمله المؤسسات الحكومية والوزارات المعنيّة، وقطعاً نحتاج إلى مشروع حكومي يتعاطى مع احتياجات الطفولة العراقية وفي مقدمتها إنشاء بنى تحتية لثقافتها، أي أن يكون في كل محافظة عراقية، بل في كل مدينة، مسرح ودار سينما ومكتبة للأطفال ..ويبقى الاحتياج الأهم و الأكثر إلحاحاً وضرورة هو السعي لإطلاق فضائية للطفل العراقي لتلبية احتياجاته الملحّة.
المسرح الجوال
من جانبه، يجيب المخرج (حسين علي صالح)، مدير الفرقة الوطنية لمسرح الطفل، عن وجود مسرح طفل من عدمه قائلاً:
للأسف ليست لدينا هذه الثقافة التي تجعل الأهل يصطحبون أطفالهم إلى المسرح لمشاهدة العروض المسرحية الخاصة والموجِّهة للطفل كما هو الحال في الكثير من البلدان العربية، وهذا نابع من عدم وجود التأسيس الصحيح لمثل هذه الثقافة، ولكون البلد قد مرَّ ويمرُّ بظروف عصيبة من ويلات الحروب والدمار، وتتدهور الحياة الطبيعية فيه، حدثت هذه القطيعة الكبيرة بينه وبين جمهوره من الأطفال، بل وحتى الكبار، وأنا من خلال تجربتي التي نفذتها، وعلى نفقتي الخاصة، في إنشاء مسرح جوّال يذهب إلى لأطفال أينما يكونوا، لا أبالغ إن قلت إننا كنا نتوسل بأولياء الأمور لاصطحاب أطفالهم إلى المسرح، ولاسيما أننا نلمس إلحاح أطفالهم عليهم، إلا أن الكثير منهم لا يستجيب.
ويشير صالح إلى نقطة مهمة أخرى هي أن أغلب المؤسسات المعنية لا تولي اهتماماً لهذا الموضوع، فدار ثقافة الأطفال التي هي دائرة تابعة إلى وزارة الثقافة ولديها مسرح الفانوس السحري الخاص لعروض مسرح الطفل، مثلاً، لم تخطط لأن يكون هناك عرض ثابت يستمر لفترة معينة وفق برنامج محدد لكي تزرع هذه الثقافة، أي ثقافة اصطحاب العائلة لأطفالها إلى المسرح، وطبعاً هذا يتطلب صبراً كبيراً وجهداً مضاعفاً لكي يكون لنا هذا التقليد الجميل الذي تعمل عليه معظم بلدان العالم. يضيف صالح: إن الحالة نفسها تتكرر تقريباً في دائرة السينما والمسرح وباقي المؤسسات، بل وحتى لدى منظمات المجتمع المدني، “إلا أننا في دائرة السينما والمسرح قد وضعنا برنامجاً خاصاً للعروض، وكان من أولوياتنا أن تستمر العروض الخاصة بالأطفال لفترات طويلة كي نستقطب العوائل والمدارس إلى مسارحنا، وفعلاً قدّمنا عروضاً حضرتها أعداد جيدة من العائلات، إلا أن وباء كورونا والأحداث التي حصلت في البلد من تظاهرات وعدم استقرار جعلتنا نتريث في برنامجنا”.
وفي سؤالنا عن إمكانية عودة مسرح طفل متخصص، كما كان في السابق، يجيبنا:
طبعاً.. من الممكن أن نصل إلى مسرح للطفل بشكل متكامل إذا كانت النوايا والأهداف حقيقية وتحمل هماً صادقاً في انتشال واقع الطفل العراقي، وهذا يتم بتظافر كل الجهود وبرعاية خاصة من الدولة، مثلاً أن تكون هناك هيئة خاصة بالطفولة تُخصص لها أموال كافية وكوادر متخصصة تخطط وتنفذ بشكل سليم، ومن خلال هيئة كهذه فأنا على يقين من أن واقع العروض المسرحية سيكون له شأن كبير، كذلك يجب التعاون والتنسيق بين المؤسسات والجهات المعنية بالطفل كوزارة التربية ووزارة الثقافة ومنظمات المجتمع المدني، بل وحتى الفرق الأهلية، إن هذا التعاون سيُحدث نقلة نوعية كبيرة في مسرح الطفل، ففي تجربتنا في المسرح الجوّال لاحظنا تشوق الأطفال وتفاعلهم مع عروض هذا المسرح، لكن للأسف لم نجد أي تعاون، ولم يُسمح لنا بدخول المدارس، ولم نلحظ أي اهتمام من الجهات المعنية، في حين وصَلَنا دعم من المسرح العربي الكندي في كندا عندما شاهدوا هذه التجربة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وجهزونا بمِكسر للصوت وأزياء لدمى حيوانية وداتا شو.
ويؤكد صالح على نقطة مهمة هي ضرورة عودة المسرح المدرسي إلى ما كان عليه، لما له من تأثير كبير في خلق شخصية الطفل وصقلها وإعدادها إعداداً صحيحاً واعياً، ولنتذكر دائماً أن الطفل العراقي يستحق منا الكثير لأنه حُرِمَ من أبسط حقوقه وعلينا أن نكون أمينين في إعداد هذه الأجيال ووضعها على جادّة الصواب لكي تعود الهوية الحقيقية للعراق بثقافته وحضارته وتاريخه العريق .
الحاجة إلى وقفة جادّة
(د. زينب عبد الأمير أحمد)، المختصة في مجال مسرح الطفل ومسرح الدمى، تشارك في الإجابة قائلة:
المسرح بشكل عام، ومسرح الطفل بشكل خاص، هو من الوسائط الفنية التي تمتلك القدرة على تشكيل وعي الطفل وإرشاده وتعزيز القيم التربوية والأخلاقية لديه، فضلاً عن الارتقاء بذائقته الجمالية من خلال خلق عوالم ساحرة زاخرة بالحركة والصور الجمالية التي هو بحاجة إليها، عوالم تكاد تكون مُزاحة أو مفقودة بفعل هيمنة ضعف الوعي بأهميتها ودورها الفاعل المهم في تنشئة الطفل، فلو عدنا إلى الوراء بنظرة فاحصة لثلاثة عقود خلت لوجدنا أن عروض مسرح الطفل في العراق لم تخرج عن إطار العروض (المناسباتية) التي ترتبط بمناسبة معينة ليس الاّ، ولاسيما في المؤسسات المعنية الرسمية، فضلاً عن المهرجانات المسرحية التي تعنى بالطفولة، فهي الأخرى وإن أُقيمت لدورة أو دورتين أو خمس دورات كأقصى حد، لا يُكتب لها أن تستمر في دوراتها اللاحقة، وذلك لضعف الوعي، كما قُلت، إلى جانب ضعف الدعم المادي لها!! كما أن المسارح المخصصة لعروض مسرح الطفل، رغم ندرتها، أصبحت اليوم مجرد فضاء يبكي أمجاده التي كان يزخر بها!! أين سينما الفانوس السحري وأين مسرح دار ثقافة الاطفال؟
وتشير أحمد إلى أن تفعيل الحركة المسرحية لمسرح الطفل، ومسرح الدمى أيضاً، يحتاج إلى وقفة جادة من قبل مؤسسات الدولة، ويحتاج إلى سياسة خاصة تتبناها الحكومة بتفعيل حقيقي لدور مديريات النشاط المدرسي والمنتديات والمؤسسات الثقافية في بغداد وقصور الثقافة في المحافظات، وذلك بتخصيص برامج عمل حقيقية لتفعيل هذه الحركة وبث الحياة في مفاصلها، لا أن تبقى العملية المسرحية الخاصة بالطفل أسيرة لمهرجانات وعروض (مناسباتية احتفائية) تنتهي حين تبدأ، لا تخدم الطفولة ولا تلبي احتياجاتها، فهي مجرد (بروباغندا) للمؤسسات القائمة عليها .
مقترح وأمل
ختاماً يحدثنا الناقد والباحث السينمائي مهدي عباس أن لديه مقترحاً سيقدمه لرفد سينما خاصة بالأطفال، يخبرنا به قائلاً:
نحن فعلاً بحاجة كبيرة لسينما الطفل مع ازدياد إنتاج أفلام الأنيميشن وأفلام الأطفال في العالم، فأميركا وحدها تنتج أكثر من ثلاثين فيلم أنيميشن سنوياً، بالإضافة إلى دول عديدة في العالم مثل كوريا والصين واليابان وفرنسا وبريطانيا التي تنتج عشرات الأفلام الموجَّهة للطفل، لكن مؤسساتنا ذات الاختصاص مشلولة تماماً، فهي غير قادرة على إنتاج فيلم طوله خمس دقائق، فكيف تبني دار عرض للأطفال؟ دور السينما باتت الآن في المولات فقط وبالتحديد في المنصور وبغداد وزيونة، وهي مفتوحة للكبار والصغار وبالإمكان أن نقترح تحديد قاعة خاصة للأطفال فقط تحتفي بهم وتعرض أفلاماً خاصة لهم، وهي فكرة أراها ممكنة وسأطرحها على الأستاذ (زيد الخفاجي) صاحب دور السينما في المولات لتحقيق ذلك، وأكيد لا يمكن فعل ذلك إلا بعد انتهاء أزمة كورونا.
وما بين أمنيات ومناشدات حكومية وأهلية بمحاولات عودة سينما ومسرح ومرسم ومكتبات الأطفال، ما زالت للحديث بقية عن عوالمهم الأخرى..