حبٌّ أقل

744

مقداد عبدالرضا /

“حب أقل” هو الفيلم الرابع للمخرج الروسي أندريه زفغيانتسف بعد فيلمه (العودة، التنين، الينا)، في هذا الفيلم يكاد يكمل خط الانهيار الذي حدث وصعود نجم العالم الجديد (روسيا الحديثة)، أمران يوضحهما منذ البداية، بلقطات عشر واسعة يطلعنا أولا على هوية السينما (السوفيتية) الروسية، لقطات كبيرة وحركة بطيئة، والثاني أن كل ما سيأتي هو بارد ومحطم مستعينا باللون الرمادي،إذا ماسلمنا أن هذا اللون هو لون غياب وانهيار، حركة تكاد تكون متوقفة لهذه اللقطات، يعقبها خروج الأطفال من المدرسة وكأنهم خرجوا من سجن، اليوشا ومجموعة أطفال يهرعون إلى الخارج، يتجه اليوشا الى الغابة يجد خيطا مدفونا، يأخذه ويطوح به عاليا، يتعلق بأعلى الشجرة مع بزوغ شمس خجلة، لعله يقول لنا أن هناك ثمة أمل لايزال، (ربما اسم اليوشا هو الاسم المصغر لاسم لينين). لذا سنجد بعد اختفائه انهيار القيم وهيمنة العالم الجديد، اليوشا هو الضحية الوحيدة في هذا السرد الصوري، يصل الى الشقة، الأم تنتظر ضيوفا، في الحقيقة هم ليسوا ضيوفا، بل أناس جاءوا للتفاوض حول شراء الشقة بسبب التوتر الحاصل بين الزوج والزوجة وانتظار الطلاق، ينقسم الفيلم الى قسمين، الأول هو زعزعة العلاقات وخفوتها، تنافرها، بلمسة خفيفة ومجسات بعيدة جدا، يقودنا المخرج زفغيانتسف إلى نهاية دراماتيكية متوقعة لكنها صادمة، إنه ينصب ويغور في أسلاك شائكة تعيق عملية البناء أو حتى الترميم، يترك لنا دراما معنوية بطيئة الحرق لكنها تلسع بعنف ودقة، زواج غير متكافئ بين الأب والأم ينجب، ربما عن طريق المزاج أو تذكرة جسدية يومية بزواج مرتبك، اليوشا الصغير المحتدم، ما الحجة المقنعة حينما تكون غاضبا؟ جزء كبير من النصف الأول يوضح لنا علاقات متشابكة كل يحمل قناعاته، الزوج يقيم علاقة مع امراة مثيرة، لكنها غبية فهي تعتمد على أمها في الكثير من الأمور، هل يعني أن الأقدم هو الاكثر نضجا؟ بينما الزوجة لها علاقة مع رجل يكبرها لكنه ثري، هل تحبه؟ هذا مايوضحه مشهد السرير، الزوجة عارية تماما مع هذا الثري وهو متجمد يكاد يشبه تلك اللقطات العشر الأولى، احبك تقول له وتقبل يده وهو صامت، اتسمعني؟ وهو صامت، ياللخيبة، تعلن له انها لم تحب أحدا مثله من قبل وهو كما الميت، في هذا السرير الحميم تبدو لنا كالثرثارة بعد ثقل المشاعر وكانها رصاص، تحدثه عن أمها، أمي حينما كنت طفلة كانت جافة كثيرا في معاملتها لي وكانها توخزه ليدرك، أمي بائسة وشريرة، أرجو أن تكون على قيد الحياة الان، أي شرخ هذا؟ لاتواصل، العالم يلتهم العالم، ليست هناك إهانة أقسى من أن تستمع إلى محنة إنسان بشعور أو وجه ميت، هل الآخر يفكر بأساه مثلما نفكر نحن بأسانا؟ يجس الفيلم نقطة صعبة جدا وهي ان الشركة التي يعمل بها الزوج تحمل الديانة الكاثوليكية ولاتقبل مطلقين، وهنا يخفي الزوج علاقته بالزوجة الجديدة، الدين يدخل حتى في الشراكة الخاصة، يختفي اليوشا وتبدأ رحلة البحث بين الطليقين كلاهما وبشكل خفي لايرغب في هذا البحث بشكل جاد وصادق، ولايرغب حتى في احتضان الطفل، التوترات إلى مداها القصي أو القسوة في انضج حالاتها،، في رحلة البحث يتحرك الركود الحاصل في تلك النفوس البشرية، السمة الحاصلة هي عدم الرغبة الحقيقية في البحث عن اليوشا، لامبالاة من فريق البحث وصعوبة التعاون بين المؤسسات الأخرى، أم الزوجة حينما يزورانها في محاولة فيما اذا كان اليوشا التجأ اليها، تشتم وتصرخ ولاتعرف اين اختفى اليوشا ابن تلك اللحظة من المزاج، من خلال البحث يطلعنا المخرج على الهدم الذي حصل حتى في البناء، قد يكون اليوشا، هنا او هناك تعلق صوره في يوم شديد البرودة على الأشجار للتعرف عليه، لكنه اختفى، اختفى تماما، وباختفائه ترك لنا عينا مفتوحة باتساع على مايجري من قهر وتعسف على روح الانسان المجيد والمأخوذ في وقت واحد، العجز يصيب الكل، تشيخ الارواح، وما اروع مشهد النهاية الذي فيه افصاح جلي على الانهيار التام، الزوجة وخلف مايشبه لقطات البداية العشر حيث الأشجار والثلج يتساقط فوقها، تصعد فوق جهاز الجري وهي ترتدي سترة رياضة كتب عليها روسيا، العشيق في الداخل يثرثر بالهاتف المحمول، الكل يجري لكن الكل متوقف، ماالذي يجري في روسيا؟ ما الذي يجري في هذا العالم المنهار؟، لكن المخرج لايتركنا مع كل تلك الخيبات التي حصلت، إذ ينتقل بنا الى خيط اليوشا المعلق في الشجرة وهو يتطاير بحركة آسرة، ربما يقول لنا هناك أمل طالما هناك انسان موجود فوق هذه الارض، الانسان المستنير، هذا مايفصح عنه فيلم (loveless) الرائع، هو ذا عالمنا اليوم عالم الجري وانسحاق روح الانسان الطيب، حصل الفيلم على الجائزة الكبرى لمهرجان كان السينمائي 2017، رشح لاوسكار افضل فيلم اجنبي، لكن الناقد الروسي الكسندر غولوبتشكف قال إن كل شيء يعتمد على مدى اهتمام اكاديمية السينما الأميركية بموضوع روسيا اليوم، أما الناقد السينمائي تيمور علييف فيقول إن موضوع الدراما لدى زفياغينتسف يمكن أن يكون غير جذاب للأكاديمية، النتيجة وكما توقع الاثنان، لم يفز الفيلم loveless))، بل فاز التشيلي (A fantastic woman) “امرأة رائعة” للمخرج سباستيان ليلوا، ربما لنا عودة في الحديث عن هذا الفيلم.