حكايات من الذاكرة.. حضيري والوصي

408

إعداد : محسن إبراهيم /

في أربعينيات القرن الماضي برزت أسماء غنائية قادمة من جنوب العراق أغنت الساحة الغنائية العراقية بأطوار جديدة ربما لم يألفها المستمعون من قبل، ما جعل تلك الأصوات تتمتع بشهرة واسعة بين أوساط الجمهور. من تلك الأصوات صوت حضيري أبو عزيز، ذلك الصوت الآتي من الناصرية حاملاً في نبراته عذوبة الأداء وصدق المعنى.
اكتسب أبو عزيز شهرة واسعة عبرت حدود المحلية، ولاسيما في أغنية (عمي يا بياع الورد) التي انتشرت عربياً وعلى نطاق واسع. هذه الشهرة جعلت حضيري أبو عزيز يعيش عيشاً هنياً، وصار من المعتاد أن يذهب إلى دار الإذاعة بسيارة فارهة. وقد عُرف عن الفنان الراحل كرمه وسخاؤه الكبيران، فقد كان يساعد المحتاجين دائماً. وفي إحدى المرات عند ذهابه لتسجيل إحدى أغانيه منح أحد حراس الإذاعة مبلغ خمسة دنانير، وكان المبلغ حينها كبيراً، فما كان من الحارس إلى أن يدعو لحضيري ثم يؤدي التحية العسكرية له، وصادف في ذلك اليوم وجود الوصي عبد الإله في الإذاعة حيث شاهد كيف تؤدى التحية لأبي عزيز، فأرسل في طلب الشرطي مستفسراً منه عن عدم أداء التحية له في حين أنه حيّى سيارة حضيري بالتحية العسكرية، فأجابه الشرطي: حضيري سخي ونفسه طيبه وكرّمني بخمسة دنانير، فما كان من الوصي إلا أن أمر للشرطي بمبلغ (5) دنانير، حينها رفع الشرطي يده بالسلام للوصي عبد الاله على قدر المبلغ.
خيرية حبيب وعدسة الفن
من البرامج المحببة للمشاهدين برنامج (عدسة الفن)، الذي كان يعرض مساء كل يوم خميس، وكانت تقدمه خيرية حبيب ويعده خالد ناجي ويخرجه رشيد شاكر ياسين. خيرية حبيب تذكر كيف اختيرت لتقديم هذا البرنامج، فهي لم تكن تحب الظهور في التلفزيون، لكن امتعاض زميلتها سهاد حسن بسبب تأخير البرنامج الذي كانت تقدمه آنذاك (البرنامج الثاني) وكان مخرجه الراحل رشيد شاكر ياسين، وكان رئيس المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون آنذاك محمد سعيد الصحاف، وضع الإدارة في موقف حرج فغضب الصحاف وأصرّ على أن تقدم البرنامج أية مذيعة فطلب المخرج رشيد شاكر ياسين منها أن تقدم البرنامج لتلافي الإحراج، وهذه الحكاية كانت وراء ظهور خيرية حبيب في التلفزيون وتقديم عدسة الفن.
جدير بالذكر أن برنامج عدسة الفن كان يعرض منذ عام 1964 وكان يعده المرحوم خالد ناجي ويُخرجه الفنان طارق الحمداني ويقدمه الفنان الراحل سامي السراج آنذاك، لكن المعد أوقفه بسبب عدم وجود مقدم أو مقدمة يقتنع بها الراحل خالد ناجي، لذلك طلب من خيرية حبيب أن تقدم البرنامج وبتشجيع من زوجها المخرج رشيد شاكر ياسين. وفعلاً قُدم البرنامج واستمر لمدة ستة عشر عاماً متتالية منذ عام 1970 حتى عام 1986.
قصة أغنية
كثيرة هي الأغاني التي تروي كلماتها قصصاً حقيقية يكتبها الشاعر من تجليات الأحداث التي عاشها, فالشاعر ثم الملحن فالمطرب هم الثلاثي الذي يستند إليه نجاح أية أغنية تتجلى فيها أحاسيس ذلك الثلاثي. من تلك الأغاني أغنية (المكيَّر) للفنان ياس خضر التي كتبها الشاعر الراحل زامل سعيد فتاح ولحنها الملحن الراحل كمال السيد. قصة الأغنية حقيقية تحكي معاناة الشاعر مع القطار عند محطة أور التي تعرف بالمكيّر نسبة إلى مادة القير التي استعملها سكان أور القدماء في البناء ورصف الطرق, ومن محطة قطار الناصرية يتفرع خط سكة حديد جانبي ينقل المسافرين إلى محطة أور الراغبين بالسفر إلى المدن الواقعة على امتداد الخط الرئيس، واختصاراً للوقت فإن المسافر من الناصرية إلى البصرة مثلاً يفضل أن يذهب بالسيارة إلى محطة أور دون أن يضيع الساعات في القطار الواصل بين أور والناصرية. الحبيبة التي نوت أن تسافر إلى البصرة ذهبت إلى المكيّر تنتظر وصول القطار الذي سينقلها إلى البصرة, فما كان من شاعرنا إلا التوجه إلى المحطة مثقلا بأحاسيس الوداع يصف مشاعره عند وداع الحبيبة في تلك اللحظة، وحين صفر القطار بلغت أحاسيس الشاعر وانفعالاته أقصاها، لأنه أدرك حينها أن القطار قد بدأ مسيره وحانت ساعة الفراق فيتصاعد الأداء الدرامي والشعري في نفسه حتى أنه يمسك بالقطار بيديه مردداً (يعت بيه واعتنّه)، ويطلب في موقف آخر من القطار أن يخفف من صوته خوفاً على الحبيبة أن توقظها تلك الأصوات العالية: (ولك يا ريل لا تصرخ أخاف تفزِّز السمرة)، ليعود إلى الناصرية بعد أن خاب رجاؤه وتوسله بالقطار ليستذكر كل الأماكن التي كانت شاهدة على قصة حبه.