خاتون بغداد بريشة وريث صالح الكويتي

1٬371

كريم راهي/

ربما كان لذكرى تلكم السنوات المريرة في حرب الثمانينات، أو عدد الكيلومترات الذي قارب الألف، والتي قطعها راجلاً حتّى وصوله منزل أبويه ببابل حيث ولد عام 1962، ربما كان لها الأثر البالغ في تبنّي (محمود فهمي) فيما بعد، لأسلوب المدرسة الواقعية في الرسم، كردّة فعل على الفانتازيا التي عاشها جيلنا المبتلي بالحروب الخاسرة، والمساق إليها بفوهات البنادق.

طريق الموت

ففي بداية عام 1991 المرير، وبينما كانت طائرات التحالف تطرد جيش الجنرال المغلوب من الكويت، وتسحقهُ في طريق (سفوان – العبدلي)، الذي سيعرف لاحقاً بـ (طريق الموت)، كان محمود يفكّر في الكيفية التي سيُمضي بها ما سيتبقى من أيامه بطريقة أقل درامية، وأكثر قرباً من الحياة. وهكذا قرّر من ساعته، أن يلقي جانباً، بكلّ ما تعلّمهُ في معهد التكنولوجيا، ليتوجّه لدراسة الرسم، ويفرّغ له، أسوة بأخيه الأكبر محمد فهمي، باقي حياته. وهكذا وقف بعد ذلك الكمّ من الخسارات، حيث عقد عزمه للتعلّم في معهد (خاركوف) الأوكراني، أمام أساتذة المدرسة الواقعيّة؛ (كوستنتيبولسكي)، المحارب القديم الذي يقول أنّه شبيهه، ورهطه من أمثال (غاوس) و(غنودسكي).. وقف على قدميه ليقول: ها أنا أحيا!

محمود فهمي رسّام من طراز مختلف، فعدا عن كونه وريثاً لأسلافه من المبدعين، فهو ابنٌ بارّ لهم.. يرسمهم تارةً، ويبكي عليهم تارة. يقول محمود في منفاه الكندي، حيث يعيش ويرسم على وقع موسيقى عراقية ضاربة الجذور:-

“بكيتُ وأنا أرسمُ صالح الكويتي وشقيقه داود!”.

من رسم الخاتونات الى المس بيل

آخر ما أنتجتهُ يدا محمود المدرّبتانِ على رسم الخاتونات البغداديات المكوّرات، اللائي يسترحنَ على سطوح المنازل، يلتهمن (أشياف الرقّي) ويتطلّعنَ إلى الديَكة، امرأةٌ ليس لها في كلّ هذا وذاك.. هي (المس غرترود بيل)، الخاتون البريطانية التي عاشت في العراق، متنقّلة بين سهوله وجباله، وراسمة سياستهُ الداخلية والخارجية لسنين طويلة، رسمها بمثل ما يتخيّلها وهي تجلس في نهار بغدادي، على (قنفة) خشبية مغطّاة بحصير، ممسكة بقلم (باكر) ومفكّرة، ستدّون فيها تأريخ البلاد لقرابة العقدين، وعلى المنضدة أمامها دواة (باركر) وقدح شاي تقليدي، بينما جاورهما عدد الأول من آذار من مجلّة (أخبار لندن المصوّرة) وقد حملت على غلافها الخارجي صورة الجنرال (فريدريك ستانلي مود) وأنباء عن قرب احتلاله لبغداد، فيما استقرّ إلى شمالها تاريخان حافلان؛ العراق كلّه، مُختصراً بكاميرا (سينشوري) فخمة كانت ترافقها في حلّها وترحالها، وتأريخ إرستقراطيّتها النبيلة كما تشي به حقيبة (لويس فيتون) بُنّية فاخرة، هي أكثر رفعةً من ايّ وسام ممكن أن تحملهُ أنثى.
خاتون بغداد

يقول فهمي عن غلاف رواية (خاتون بغداد) هذا، للروائي العراقي الدكتور (شاكر نوري) الذي أتمّهُ للتو، أن العمل استغرق منهُ سبعة أسابيع من دون توقّف، مابين رسم وقراءة في تاريخ العراق الحديث. ليصنع ملامح الخاتون هذه، كما وضّحتها الرسمة:
وجه بذقن مستدقّ وأنفٍ صغير، عينان ذئبيّتان زرقاوان تشيان بفطنة حادّة، أحاطتهما من الأعلى بضع خصلات من شعر أشقر تتدلّى من أسفل قبّعة انكليزية بمزيّنة بشريط ووردة، فيما ميّز هندامها بمعطف ازرق يُظهر قميصاً رسمياً بشريط عنق مورّد.
لقد حرص محمود على أن يُتمّ هذه اللوحة البانورامية بإتقان، لا من حيث الصنعة فحسب، بل والدقّة التأريخية التي جعلته يختصر عام 1917، وهو عام دخول القوات البريطانية بغداد، في أقلّ من مترين مربعين من الزيت على الكانفاس (130 x 142سم)؛ قفف دجلة قرب جسر (الكطعة) الخشبيّ -الشهداء حالياً- في نهار بغدادي مشمس، البواخر وطائرات الحرب العالمية الأولى البريطانية، جنود من قوات همبشاير، بريطانيون وهنود كورخا، أفندي عراقي لا يزال بطربوشه التركي، أعراب يحلّقون بما هو (أعجب من البعير) في سماء زرقاء نصف غائمة.

زمن اللوحة

يقول فهمي أنه تعمّد في اختياره لهذا المكان أن يُظهر جامعي الأصفية، الذي ارتفعت فوقه راية المحتلّين، والوزير ذي القبب الثلاث، حيث (القشلة) وسراي الحكومة. بينما حدّد يوم الخامس عشر من نيسان للسنة نفسها، زمناً للوحته، وهو اليوم الذي وصلت فيه المس بيل إلى بغداد قادمةً من البصرة، بعد خمسة وثلاثين يوماً من دخول البريطانيين فيها. ويعقّب: “لقد بقيت لسنين أجمع ما أمكن من المصادر وأقرأ عن تاريخ العراق والاحتلال البريطاني ودور المس بيل”، مستشارة (تشرشل) وصديقة (لورنس العرب) المقرّبة، التي يضع محمود بنفسه تعريفاً موجزاً لها فيقول:

“غرترود بيل (1896-1926) باحثة بتأريخ الشرق، مصورة فوتوغرافية، كاتبة ومترجمة ترجمت ديوان الشاعر الفارسي حافظ، مستشارة القائد البريطاني برسي كوكس، ألفت العديد من الكتب المهتمة بالتأريخ والآثار، كتبت أول كتاب عن قصر الأخيضر باللغة الانكليزية، رحالة ومكتشفة في الجزيرة العربية والأناضول، رسمت حدود العراق الحالية ولها الفضل في اختيار الملك فيصل ملكاً على العراق. أسست المتحف العراقي وضمت كلّ مقتنياتها من الآثار الآشورية والبابلية الى المتحف العراقي الحالي، أسست نادي العلوية. توفيت في بغداد عام 1926 بسبب تناولها جرعة كبيرة من الأدوية عن عمر ناهز الـ 57 عاما ودفنت ببغداد في المقبرة البريطانية”.
بقي أن نقول أن العنوان الذي وضعه الفنان محمود فهمي للوحته هو:

(Message from Baghdad (Miss Gertrude Bell April 1917