خصومات فنية وغيرة ملكية أم كلثوم.. كوكب الشرق طليقاً..
عادل مكي/
تأريخ فنيّ طويل من الخصام والزعل العنيد المثمر، إذ إن الخلافات الفنية والأدبية في حياة سيدة الغناء العربي كثيرة ومتعددة، منها ما خرج للعيان، ومنها ما بقي طي الكتمان، ناهيك عن غرابة حياتها الخاصة وما يدور همساً عن علاقتها بثمانية رجال، حكايات شابها الكثير من اللغط والتهويل، فهي كانت مطربة القصور والملوك والزعماء والقادة الكبار.
تلك المرأة العصامية محل الجدل الدائر الدائم على مر التاريخ، فهي المقربة الأولى للملك فاروق الذي منحها وسام الكمال لتكون صاحبة العصمة، وهو وسام مقتصر فقط على الأميرات وملكات الأسرة الحاكمة، وهو ما أغضب الأميرات، إذ كيف لامرأة ريفية أتت إلى القاهرة على ظهر حمار أن تصبح لها عصمة مثلهن؟ كذلك الحال مع السيدة جيهان السادات التي شنت حرباً خفية غير معلنة عليها، كونها الوجه النسائي الأول لمصر، ومن باب غيرة النساء جرى منعها من الحفلات الرسمية للدولة وتقليل بث أغانيها من دار الإذاعة، وأيضاً خلافها مع الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي (هجا) كلبها المدلل بقصيدة ساخراً من ذلك الكلب الذي نهش ذات يوم ساق أحد المارة من أمام بوابة قصرها الكبير، وكذلك خلافها وغيرتها من منيرة المهدية وأسمهان وامتعاض الشاعر عبد الرحمن الأبنودي منها بعد مواقف متعددة أحرجته فيها، وخصومتها مع الملحن زكريا أحمد الذي وصل به الأمر للجوء إلى القضاء. أما خلافها المحتدم مع الشاعر أحمد رامي الذي أقسم بعدم التعامل معها وعدم سماع أغانيها، رافضاً أية محاولة للصلح، لكنه تراجع بعدها مرغماً بعد أن أجرت أم كلثوم عملية استئصال الزائدة الدودية، فذهب إليها وتصالحا بعد موجة من البكاء بينهما.
لكن يبقى أشهر الخلافات الذي دام لخمس سنوات هو ما حدث بينها وبين عبد الحليم حافظ، والسبب أنها غنت في حفل فني كان من المفترض أن يغني بعدها عبد الحليم حافظ، لكنها استمرت في الغناء والمطاولة حتى خيوط الفجر الأولى، ثم ارتقى بعدها عبد الحليم حافظ المسرح ومسك المايكرفون قائلاً “انا مش متأكد منه دا كان شرف ولا مقلب.” من هذه الكلمات هاجت أم كلثوم وغضبت من حليم، فزعلت طويلاً حتى جاء التصالح في خطوبة ابنة السادات عام 1970 بعدما قام عبد الحليم بتقبيل يدها، حينها قالت له (عقلت ولا لسه) لينتهي بذلك عقد الخصومة الطويل.
أما ما يخص خلافها مع محمد القصبجي، ذلك العاشق الذي أخذ بيدها في أولى خطواتها وانطلاقتها، وكان بجوارها ملحناً وعازفاً وقائداً لفرقتها التي أسسها لها، لكنها خذلته واتجهت إلى ألحان السنباطي ومحمد الموجي، فقرر أن يبقى بعيداً عن التلحين على أن يبقى جالساً خلفها على كرسي خشبي حاملاً عوده حتى آخر أيام حياته. لكن خلافها الأعمق كان مع محمد عبد الوهاب، فكلاهما كان يرى نفسه أنه الأوحد، فهو الأستاذ وهي الست، وقد كانت الحرب بينهما بالوكالة من خلال الصحافة والإعلام، ولم تنتهِ تلك الحرب الطويلة إلا بتدخل الرئيس جمال عبد الناصر الذي جمع الاثنين فتصالحا لتخرج إلى النور أغنية (انت عمري)، باكورة ذلك التعاون الكبير. في حين بقي خلافها مع رياض السنباطي محل البحث والتدقيق، فهو يعتبر المبدع الأول في تلحين القصيدتين، الكلاسيكية والدينية، فضلاً عن إبداعاته العاطفية، فهو قد أسس لمدرسة لامثيل لها، وقد بدأ يشعر أن حنجرة أم كلثوم بدأت تخرج من يده، ولاسيما بعد دخول محمد عبد الوهاب على خط التلحين، كذلك دخول ذلك الشاب صاحب الموسيقى الساحرة، الملحن بليغ حمدي، الذي بدأ بكتابة تاريخ جديد لأم كلثوم، ناهيك عن الخلافات الأخرى، لأنها كانت تعامله معاملة خاصة، أما لأسباب فنية أو مادية، فقد عرف عنها تدخلها الشديد في كلمات وألحان أغانيها، وحرصها الكبير على تاريخها الفني العميق، فقد وصفها السنباطي ذات يوم بأنها متقلبة المزاج تعطي أحياناً من غير حدود، وأحياناً تمسك يدها حد البخل، عكس ما قاله عنها الممثل الشهير عمر الشريف الذي كان هو وفاتن حمامة ضيفيها الدائمين أنها “ست (گدعة) وبنت بلد، فهي تجمع بين الفطنة والدعابة، لكنها عبارة عن شخصين هما الزعيمة والفلاحة في كيان واحد شديد الجاذبية.” كما أنها لم تكن مثل باقي المطربين، فقد رفضت أن تفتح بيتها للصحافيين، إذ كانت ترى أنها كلما أقلت في الحديث معهم، زاد تركيزها على موسيقاها.
أما زعل السنباطي عليها فكان بسبب خشية أم كلثوم من عدم قدرتها على أداء أغنية (الأطلال) بالطبقة العالية التي رسمها السنباطي، لذا طلبت منه أن يغير في طبقة اللحن لكنه رفض التدخل في عمله، فغضب وحمل عوده وذهب إلى بيته لينعزل شهوراً طويلة، فبقيت أغنية (الأطلال) حبيسة لثلاث سنين، رافضاً كل محاولات الصلح، كونه الخبير بصوتها، واضعاً أم كلثوم أمام خيارين، فإما القبول بها كما هي، أو أنه سيعتذر عن تلحين القصيدة التي تتألف من 134 بيتاً، جرى اختيار 32 بيتاً منها، وقد وصفت بأنها أجمل اغنية في تاريخ الغناء العربي، وفي عام 1966 قبلت أم كلثوم بشروطه لتغني تلك الأغنية الخالدة، التي وصفت بإنها عمل عبقري، وقد غنتها أم كلثوم بكل اقتدار لتكتب للتاريخ صفحة جديدة من الغناء الكلاسيكي الجميل. في تمام الساعة الثالثة صباحاً أكملت أم كلثوم غناءها، وطلبت من سائقها التوجه إلى بيت السنباطي، مخالفة كل قواعدها الصارمة، وفي ذلك الوقت انتهى السنباطي من سماع الأغنية من الراديو، وفوجئ بحضور السيدة في ذلك الوقت المتأخر شخصياً كنوع من الاعتذار لتقول له: “شكراً لك لأنك كنت على حق..” وبهذا انتهت مرحلة الخصام الطويلة، بعد أن قدم الاثنان أجمل أغاني العصر الذهبي في زمن الفن الجميل..