رحلة مع سفانة عذبي إلى مجرّاتها المتخيلة

311

نصير الشيخ/

تأخذنا أعمال الفنانة البصرية سفانة عذبي الى مناطق وعرة في النفس البشرية، كاشفة لنا عن جغرافيا غير متطامنة مع عوالمها الواقعية، تتشكل ملامحها من تضاريس كونية تشهدها العين المجردة في صور الجبال وكهوفها وحافاتها بزواياها الحادة.
تظهر أمامنا حافات جبال جليدية عند النظر ملياً الى اللوحة، في استعارة مشهدية لجبال القطب (آيس بيرج)، حيث قمم الجبال وحافاتها ظاهرة بكل كبرياء، لكنها تخفي تحتها بحاراً من ماء..!! فهل للنفس عوالمها التي تشبه عوالم الطبيعة؟
طاقة متفردة
“وإذا كان من مهمة الفن أن يبدأ من الإنسان لينتهي فيما وراء وجوده المحدود، فإنه يبقى في الجوهر/ نقطة البدء/ في كل شيء ، فهو المبدأ الحقيقي في كل إبداع.” / جان برتليمي./
فهل انعطفت الفنانة صوب مجراتها، وشكّل الحلم طاقة متفردة في موضوعاتها الرسموية، وبدت ملامحه سائحة أمام أعيننا، بل أضحى هو مصدر إلهام تعبيري لحرفية اشتغالها، الحلم ممهوراً باسترجاع الذاكرة ومن ثم استمراء الواقع بهشاشتهِ، والعمل جدياً لدى سفانة على إنتاج أعمال مغايرة للسائد، مجترحة فضاءً غرائبياً هو جزء من عالمها المرئي المتجسد لنا على لوحتها وسطحها التصويري، طبقات متراصة هي مزيج من طاقاتِ حلمية تكونت على شكل تعرجات صخرية، استطاعت سفانة تجسيدها على سطح لوحاتها أسلوبياً، وبما يبصم لها شكلاً مائزاً كقاسم مشترك للأعمال التي بين أيدينا.
تقول الفنانة سفانة عن مفهومها للفن: “نستطيع القول إن الإنسان هو حصيلة ظروف وجوده في بيئة، مجتمع، واقع، بكل تفاصيلها، هذا ما يشكل بنيوية الخطاب الفكري اللوني بالنسبة لي، الذي يرمي بظلاله على النتاج الفني، الذي هو من وجهة نظري انعكاس للواقع المعاش مهما كانت نسبة الانزياح فيه عن الواقع (أعني مقصدية الفنان ومحاكاته ما حوله)، وأخص بذلك تجربتي التي بين أيديكم، التي تمخض عنها المعرض الأول عام ٢٠٠٠، الذي أعتبره بداية مهمة لمسار يكاد أن يشكل جزءاً مهماً من وجودي.”

التراكم الحدثي
هل دواخل النفس البشرية مكتظة بالأعاصير وسيول اللهب البركاني..؟
هل هي طبقات جبال جليدية لم تطأها قدم بشرية؟
ــ تشتغل لوحات الفنانة سفانة عذبي على متوالية “التراكم الحدثي”، إذ تشمل لوحاتها عالماً خاصاً يؤثثه هذا “السمت الصخري” الذي يكوِّن لنا مساحة تصويرية تمثل خطاب إبداع الفنانة، ومسحاً شاملاً للوحاتها يؤكد لنا هذه القراءة التي تذهب بنا الى طبقات النص، أي ما يجعلنا نستكشف أغوار اللوحة وعمقها وتراكمها اللوني.
تحضِّر الأرض وتحولاتها الجيولوجية هنا نصاً بصرياً يعطينا إشارة واضحة لمديات اشتغال الفنانة في هذه المنطقة، منطقة لا تشي بجغرافيا مولد الفنانة وجذورها البصْرية.. فلا نهر نرى.. ولا نخل.. ولا طير سابحاً في أكوانه.
اللوحة أمامنا مشهد تصويري لتراكمات صخرية، نكاد نلمس صلادتها، وبالتالي لا تمنحنا منطوقاً لسانياً للتعبير عما نراه، ولا منظوراً واقعياً كي يمنحنا مفتاح السؤال: أين هذا المكان..؟
تشكلات جمالية
الفنانة سفانة عذبي تضعنا أمام صور مركّبة لعوالم مستجلبة من مجراتٍ بعيدة، سماواتٍ لازوردية وكتل صخرية تتحول في طياتها الى تشكيلات هندسية خارجة عن منطقها الرياضي المتعارف عليه، الى تشكلات جمالية تمنحنا لذة التأمل أولاً وبهجة صوفية تلامس وتراً صامتاً في دواخلنا ثانياً، كي نمتلك ناصية العبور إلى تلك المناطق غير المأهولة، التي ربما هي هناك في عوالم أخرى من هذا الكون العجيب، أو هي عوالم مكتظة من نور إلهي وحدوس وأمنيات تشكلت في معراج روحي أضاءته الفنانة لنا بطبقاتها الثرة. وتستكمل معنا حوارها عن الفن وكيمياء اشتغالها بالقول: “في هذه التجربة أخرج متحررة من حلقة تمثيل الطبيعة، والانزياح عنها بالألوان الزيتية البراقة تارة، والمعتمة تارة أخرى، بعفوية مدروسة وبرؤية فلسفية فنية جمالية أتحسس من خلالها تحولات الطبيعة بتقنيات مختلفة ومن خلال الضوء والظل، للحظة ما ولمكان ما. أما الفن فهو بالنسبة لي، وسيلة معرفية ومهارة في الأداء لتحقيق هدف ورؤية فنية خاصة، وهو عامل أساسي ومهم موجه نحو الذائقة الفنية بصورة عامة. ألوان زيتية على ورق خاص.. إضافة إلى مواد مساعدة، تلك هي خامات اشتغالي على السطح التصويري للوحة.”
الزرقة المخففة تهطل علينا في كل معاينة للسطح التصويري للوحة، وكأننا بالفنانة تضع أمامنا “مسلة” لونية من الأزرق الباذخ، لنعود الى الجذر الرافديني وتجلياته الإبداعية في القطعة المتحفية الثمينة “الإناء النذري”، حيث كل جزء فيه يكشف عن عوالمه: حافات جبال، تجاويف، نتوءات صخرية، شلالات من الرؤى.. كلها تتضايف هنا تشكيلاً بصرياً يسرب لنا عذوبتهُ، ويجعلنا على الدوام نديم النظر إليه ليتكشف لنا -شيئاً فشيئاً- ما تطامن في أرواحنا ومدياتها الرحبة، في توكيد خالص على أن العمل الفني عالم قائم بذاته، وبقدر ماهو يربكنا بأسئلته، فهو يحررنا من تراكمات هذا الواقع، عابراً بنا عبر مساحاته اللونية لفضاءات ضاجّة بالجمال والهدوء النسبي.