سيرة لوحة من السليبويا إلى الحلم

805

عواد ناصر/

في أمسية فنية أقيمت في مكتبة “ألف” بلندن، قبل أيام، قدم الفنان التشكيلي ستار كاووش (تولد بغداد 1963)، سيرته الفنية بإيجاز وبأسلوب مبسط للحاضرين وإن كان أغلبهم من الكتاب والفنانين والمتابعين.

استعان كاووش بالعرض الضوئي، على شاشة، لنرى إليه فتى يافعاً ثم شاباً طالباً في أكاديمية الفنون الجميلة، حتى آخر صورة له فناناً من فناني المقدمة في هولندا، دولة أشهر فناني القرن العشرين: فان كوخ وزملائه، ليتبوأ مكانة مرموقة يحسده عليها فنانو البلد الأصليين. السر: لون مدهش

الفتى الأسمر، مربوع القامة، ذو العينين الملونتين (ربما لونهما بنفسه!) وملامح طفولية لم تزل تبين هنا وهناك في وجهه وحركة يديه، جاء من جنائن بابل وحرائقها منحدراً من جد سومري عريق، ومن خلفية حضارة لا ينكرها حتى كارهوها: حضارة ما بين النهرين.

قال: اكتشفت لغز الرسم عندما اكتشفت السليبويا، علبة الألوان الصغيرة تلك التي ليس بمقدور الأطفال كلهم الحصول عليها. لغز أن تغمس الفرشاة بالماء ثم تمررها على القرص الدائري الملون لتكتشف السر: لون مدهش.
يتعرف الفتى لاحقاً على كتب الفن وسير الفنانين بمن فيهم أولئك الغربيون الذين لا يحسن لفظ أسمائهم.
كل سيرة تستمر، أو تتوقف، تبدأ بخطى متعثرة. لكن هذي الخطى سيشتد عودها، فيما بعد، وهي تعبر الحدود والأسلاك الشائكة لأن الفن لا يخضع للمخافر وشرطة الحدود، ومثل الآلاف غيره يختار الفنان الهجرة أو الهرب أو الحرية ليغادر بلده منتصف التسعينات إلى أوروبا، هولندا تحديداً.
في وطن فان كوخ

هناك في وطن فان كوخ وزملائه، ستتضح الرؤية أكثر وتزدحم معارضه بالزوار وتتكرر الجوائز القيمة، وأبرزها تقريظ النقاد ورعاة الفن وجامعو اللوحات.

حتى جارته الستينية ستفخر بأن الرسام العراقي، ابن شهرزاد والواسطي وجواد سليم، رسم لها بورتريه في غاية الروعة.

ومثل جده كلكامش أعجبت به صاحبة الحانة لتعرض عليه تناول مشروباته مجاناً لمدة سنة كاملة لأنه رسمها بإتقان.

نجح هذا الولد الشغوف بالحب الملون والنساء التركوازيات في أن يصنع لوحة تشير إلى راسمها، فوراً، حتى من دون أن يضع توقيعه.

المزيج الذكي بين الأخضر والأزرق في حد ذاته هوية شعبية يعرفها، أو يحملها، الكثيرون منا في ذاكرته وأحلامه منذ الولادة، في تلك الخرزة الزرقاء، أم سبع عيون، التي تطرد الحسد أو في قلائد الجدات وخواتم الحبيبات.. هوية التركواز.

المرأة أبرز التكوينات

في أعماله يضع كاووش ثيمة الحب في مركز شغله الملون بالتركواز وما يجاوره من ألوان تغتني به ويغتني بها. على أن المرأة هي أبرز التكوينات في لوحته..امرأة بتحولاتها الدرامية بين الانتظار والحلم والشبق والقبلة بعينيها السوداوين اللتين يسيل منهما الكحل على قماشة اللوحة.

هكذا يقاوم كاووش بؤس تاريخه الشخصي كمواطن مطرود من وطنه أو كمنفي يبرر للنظارة قضيته المعقدة.
ألف شكل وشكل للحب في لوحات كاووش التي يطلق عليها أسماء مثل: نجوم متساقطة، القفاز الأزرق، حلم أحمر، لحظات حب، فتاة وتفاحة حمراء، قصة قصيرة، وغيرها العشرات.

حتى لوحاته بالأبيض والأسود يمكن للعين الشغوفة بالخيال أن تلمح ثمة ألواناً.

كتب عن تجربة الفنان

صدرت كتب عدة حول تجربة هذا الفنان الدؤوب. آخرها كتاب ضخم وأنيق الطباعة بعنوان “نساء التركواز” باللغتين الهولندية والإنكليزية، وهو بمثابة معرض شخصي يضم عشرات من لوحاته عدا الأغلفة التي صممها للكتّاب والشعراء، وأخرى اختيرت أغلفة لمجلات عراقية وأجنبية.

وصفت الناقدة الفنية والمتخصصة بالفن العربي شارلوت هايغنز، في مقدمتها لهذا الكتاب/ الألبوم، بأنه سليل ألف ليلة والتقاليد العباسية التي ازدهرت فيها الكتابة والعلوم والفكر والفنون، ومن ثم رواد الفن التشكيلي وأبرزهم الواسطي في القرن الثالث عشر الميلادي، الذي عدته هذه المتخصصة بأنه مؤسس الفن التشكيلي العربي.
وأشارت في مقدمتها إلى أن كاووش فاز بجوائز مهمة منذ تجربته المبكرة في بغداد منتصف الثمانينات.