شباب يستعيدون ألق القصيدة السبعينية

1٬465

رجاء الشجيري/

الشعر هوية الشعور وترجمته، وبصمة حياة كاملة.. فكيف له أن يخرج من كدمات عاطفية ولغوية شكلتها الحروب والويلات وسنوات الحصار ليخلق له لغته الخاصة.. فمن خلال ظاهرة لافتة لشعراء شباب في الشعر الشعبي تحديداً عبروا لغة وتكوين الخطاب الشعري في فترة الثمانينات والتسعينات إلى الكتابة بشاعرية وترافة السبعينات..

مجلة “الشبكة” سلطت الضوء على هذه الظاهرة اللافتة من خلال آراء مختلفة لشعراء كانت كالآتي:

طوق الرتابة

الشاعر جمعة الحلفي يقول: لم تفلح أجيال من كتّاب القصيدة الشعبية، طوال العقود الماضية، في تجاوز تجربة شعراء السبعينات بغناها وريادتها، ولاهم قدموا تجربة مغايرة، كما حصل (في سبيل المثال) في ميدان القصيدة الفصيحة التي تلت تجربة شعراء تلك الفترة ذاتها. وقد يكون للمناخ السياسي والنهج التعبوي وسيادة ثقافة الاستبداد، التي ظلت سائدة طوال تلك العقود، دور في حجر الكتابة الشعرية وحصارها في موضوعات محددة، الأمر الذي غيب أو عطل فرص الكتابة الشعرية العميقة والمتأملة. وبالإمكان تلمس هذا الفارق بين التجربتين الشعريتين ليس في القصيدة وحدها، إنما في الأغنية أيضاً إذ ظلت الأغنية السبعينية، التي اتكأت بالطبع على قصائد أولئك الشعراء، سيدة الموقف حتى الآن.

لكن مع ذلك يجب القول أن هناك الكثير من الاستثناءات، وبخاصة من الشباب، التي أفلتت من طوق الرتابة الشعرية والمنبرية والخطابة، لكنها للأسف لم تلق رواجاً ولم يلق عليها الضوء كفاية فبقيت في الظل. وقبل فترة حضرت مهرجاناً أقامه عدد من هؤلاء الشباب في النجف واستمعت خلاله لقصائد مدهشة تنتمي جذورها إلى الفترة السبعينية، وفي الواقع لم أكن أتوقع ذلك. لهذا أعتقد أن شكلاً جديداً من الكتابة الشعرية سيعيد القصيدة الشعبية على يد هؤلاء الشباب إلى مجدها.

وجه القصيدة

الشاعر كاظم غيلان كان له رأيه الآتي: منذ ثمانينات القرن الماضي ومع بداية الحرب العراقية الإيرانية أرست ثقافة العنف خطاباً دموياً مشبعاً بالحقد ولغة الثأر البدائية بحلّة عصرية صاغها صدام، ومع انتهاء الحرب وفرض العقوبات على العراق ودخوله في نفق طويل معتم يلفه الحصار الذي لحق بالبشر والحجر وتفاقم العوز وانتشار البطالة التي شجعت على إذلال طوابير من المتشاعرين الذين تبنوا إعادة خطاب الحقد، وأعني استعادة ثقافة العنف في الخطاب الشعري. كل هذا الذي حصل ويحصل ليومنا هذا اذا ماتابعنا ماتبثه العديد من الفضائيات وتشجع عليه بعض واجهات مهنية تمثل شعراء العامية إلا أنه لايمكن أن يكون تعميماً اذا ما عرفنا بأن ثمة استثناءات نادرة ممن تخلص من أعباء ثقافة العنف التي امتدت منذ بداية الثمانينات، إنها نخبة من شعراء مابعد الحرب والحصار وحتى مابعد سقوط النظام واحتلال العراق، هذه النخبة تمكنت من التخلص التام الباهر جداً في كتاباتها وحتى في طريقة الإلقاء، فقد وجد هؤلاء الشباب ومن خلال وعيهم الشعري ونجاتهم من قارب الجهل والأمية التي أزمنت دهوراً خطا إبداعيا خاصا بهم في مسيرة شعر العامية العراقية شكل وبما لايقبل الشك امتداداً لحقبة السبعينات التي شهدت أخصب فترات عمر هذا اللون الإبداعي، ويعيد ماء الوجه الذي أهدر كثيراً، ومن خلال فعاليات حضرتها شخصياً برهنت على ما أوردت كتلك الفعالية التي حققها شعراء النجف قبل عامين وفعالية “قرابين مظفر النواب” التي أقيمت في الديوانية. إن أملاً يحدوني في نهضة تزيح كل مايمكن تسميتهم بطواغيت ثقافة العنف في شعر العامية اللاهثين وراء المكاسب والهبات الرخيصة، وللأمل أهله ومبدعوه..

تدخين اللغة

الشاعر عامر عاصي كان مواكباً ومتبنياً للكثير من مواهب هؤلاء الشعراء الشباب اذ يقول: خرج الشباب من تحت ركام الحرب، وأطلوا برؤوسهم على عالم من خراب، وهم يحملون بأيديهم عالماً ألكترونياً يمدهم بسيل معلوماتي لا نهائي، يثير من التساؤلات بقدر ما يحمل من تناقضات وتوجهات مختلفة، وهكذا بدأ جيل الشباب بتمثل فوضى الهوية بعد عام 2003 وإعادة ترتيبها من جديد، في محاولة لإعادة إنتاجها كأسئلة، وكمحاولات لخلق هوية ما، وكذلك لتكوين خطاب يمثل رد فعل جمالي على كل هذا الخراب، فأنتج نصاً يتضمن كل هذه العوامل معاً، نصاً يخلق من فتات اللغة، جملة شعرية، ومن اليومي خطاباً إنسانياً عابراً للتقاويم، جيل علمته القسوة التي تفتت الأرض والأجساد بشكل يومي، أن يفتت اللغة ويشعلها، ويدخنها كلفافة تبغ يصعد منها المعنى دخاناً ممنوعاً في الأماكن المغلقة لقاعات النقد والتلقي التقليدي، جيل غير مستعد لأن يفسر لأحد، صراخاته اللغوية وهدوء صوته في الإلقاء.

ــ أزعم أن الشعر الشعبي العراقي، أنتج نفسه للمرة الثالثة في تاريخ العراق، عبر إنتاج نص يحمل مقومات مغايرة، بدأت ملامحها بالتشكل، فاتخذت ملمحاً مكوناً من مشتركات نستطيع أن نجملها في سمات محددة، منها الخلوص إلى الصورة الذهنية تماماً، فضلاً عن كونها صورة مركبة بذكاء يخلق دهشته الخاصة، سمته الثانية هي انعدام التغريض وغياب الأغراض التقليدية كلياً، أو جزئياً عن طريق التوسع في معالجة موضوع الخطاب ـ النص، وصولاً إلى آفاق لا نستطيع أن ننسبها إلى غرض محدد، السمة الثالثة لهذا النص هي خلق منظومة جديدة من العلاقات السياقية والإيحائية بين الكلمات في الجملة الواحدة، وحتى داخل المترادفة اللغوية الواحدة ضمن سياق الجملة الشعرية، السمة الرابعة تمثلت في كيفية تمظهر وحدة الموضوع، فلم تعد وحدة الموضوع مرتبطة بتسلسل منطقي لجمل النص أو ارتباط كلماته وصوره والجانب الذي يتناوله من الحياة، بل تحولت وحدة الموضوع إلى حبل سري، أو بشكل أدق خيط وهمي يربط جمل النص وأبياته، وكتله العاطفية مع بعض بشكل غير محسوس، بحيث لا يشعر المتلقي بفجوة منطقية في التلقي، أو ثلمة في النص وهو يتنقل بين عوالم مختلفة من المفردات والصور والأبنية اللغوية، التي جمعها الشاعر بدقة، من معطيات الفوضى وركامها ليؤثث بها نصه في محاولة لخلق بديل عن هذا العالم. سمات النص المذكورة أعلاه، خلقت مفهوم المعنى الخاص بها، فلم يعد المعنى مرتبطاً بدلالات الجملة والمفردة والاصطلاح، بقدر ما صار دالة لما يمكن أن يحمله من توتر عاطفي وشعرية لدى منتج النص، وكذلك دالة لما يمكن أن يفتحه على المتلقي من آفاق لإعادة إنتاج النص بالتأويل ذاته أو بتأويلات مختلفة، وبهذا فإن النص الجديد في الحقبة الثالثة للشعر الشعبي العراقي شهد تحولاً في مفهوم المعنى، فضلاً عن تحول في المعنى ذاته.

التحرر من قصيدة التهريج

الشاعر لطيف العامري يطرح سؤالاً مهماً: لماذا أصبحت المرحلة السبعينية هي وحدة القياس التي يقاس بها الإبداع؟
اكيد لما حصل من قطع إبداعي في العقد الثمانيني وعسكرة القصيده وحصارها في العقد التسعيني.. الآن بدأت القصيدة تستعيد عافيتها من خلال بعض الشباب الذين _ لانقول قفزوا _بل تحرروا من قصيدة التهريج إلى عالم الجمال الشعري..

اللحن المنسي

الشاعر شريف سعود يرى: الصور_ كمادة شعرية_ موجودة منذ بداية الخلق، محيطة بنا من كل صوب، يلتقطها الإنسان، كل حسب رؤيته، والشاعرُ يلتقطها من زاويته، يؤّولها ويضيف لها المعنى، يجمّلها- في الحالتين- لإبراز الجمال أو أن يؤشر على القُبح ويميزه من خلال الجمال.
عليه فليس هناك جدار، بين حقبة زمنية وأُخرى، ليس هناك حتى خط وهمي_ كما أتت به تقسيمات المجايلة_، هو كون حر، صورهُ حرة، في حركتها لعين الرائي_ الشاعر_ أو كما يصفها فيلسوف البرازيل، روبِم ألفِس: ” إن حركة رغبة الشاعر لاتُدرَس، لاتُوضّح، ولا تُفسَّر، رغبة الشاعر يُحرّكها الحنين لاستعادةِ اللحن المنسيّ.”

في الشعر الشعبي العراقي، دائماً هناك اللحن المنسيّ، لاضير من رغبة الشاعر باستعادة ألحانه المنسية إذن، محاكاته، برؤىٍ جديدة، بزوايا جديدة، لكن الضير في استنساخ اللحن هذا، و”استنساخ” هنا مخففة عن “سرقة” سرقة الصورة كما هي، بمعناها وزاوية سابقة وقف عندها شاعر سبعينيّ أو من أية حُقبة اُخرى، حريّ بالشاعر الذي يود العودة إلى اللألحان المنسية، أن يأتي بها ثانيةً برؤاه هو، بزاويته، بإضفاء معناه عليها.

نجد الآن، وفي فورة ولُجّة حُب الظهور المتعجّل أو “وجبات الشهرة السريعة”، الكثير من السرقات الواضحة، مثلما الغثّ والفَجّ، واللامُنتمي للشعر، تسهم بانتشاره فضائيات تلفزيونية ومهرجانات وأماس، لايظهر فيها إلا القليل من الرصين، الجديد، لشعراء شباب ومخضرمين، يخلقون نصوصاً لاتقل أهمية عن أي شعر يُكتب بأية لغةٍ كانت، لايهم الشعر نوع اللغة وهويتها، عالميتها ومحليّتها، فالشعر هو الشعر..