شكسبير.. الحقيقة كاملة في الدراما السينمائية

349

ورود الموسوي  /

ظلت حياة الشاعر والمسرحي الإنكليزي وليام شكسبير المولود في (الثالث والعشرين من نيسان١٥٦٤ م) محط أنظار الدارسين منذ يوم وفاته في عيد ميلاده الثاني والخمسين (الثالث والعشرين من نيسان عام ١٦١٦م) وحتى هذه اللحظة. فما زال الغموض يكتنف حياة “شاعر الوطن” وشاعر ستراتفورد آبون آفون.
وسبب الغموض الذي ما زال يطارده نابعٌ من قلة التسجيلات التي توثق حياته، فهناك بعض الحقائق الموثقة والمسجلة باسم شكسبير أمام المحكمة، كتاريخ زواجه وهو ابن الثامنة عشرة من (آن هاثاواي) التي تكبره بثماني سنوات إذ كان عمرها ستة وعشرين عاماً وحاملاً منه، على ما يبدو، لأنها أنجبت ابنتهما الكبرى (سوزانا) بعد ستة أشهر فقط من زواجهما الذي تم بإذن خاص من المحكمة!
كذلك توجد بعض التسجيلات الخاصة بالإرث وما كتبه لابنتيه، ففي تلك الأعوام كان الرجل هو صاحب التحكم بثروة زوجته وليس من حق المرأة التصرف بثروتها حتى بعد موت الزوج، لذلك كانت المرأة الإنكليزية والأوروبية تعاني كثيراً من سلطة الذكور عليها، فالقانون الإنكليزي كان ينص على انتقال ملكية المرأة وما تملك وبشكل فوري ونهائي إلى زوجها بمجرد عقد القران.
ورغم قلة السجلات التي تُظهر اسم شكسبير، لكن بعض النقاد استطاعوا الاستناد إلى ما وجدوه وتتبعوا خيوطه، بينما راح بعضهم الآخر يحلل شخصيته وحياته في قصائده ومسرحياته وسونيتاته الشهيرة.
ولطالما اكتنفت الشائعات حياته الخاصة ومعتقداته الدينية، فقيل إنه ثنائي الميل جنسياً استناداً إلى قصيدة أهداها إلى “إيرل أوف ساوثهامتن = نبيل ساوثهامتن” الذي كان معجباً بعبقرية شكسبير وقدرته الخلاقة في كتابة الشعر، وكان شكسبير بدوره معجباً بجمال الرجل ونبالته وقوة تأثيره وكذلك لقبه النبيل. ومن بين الشائعات تلك التي طالت إيمانه أنه لم يكن مسيحياً تقليدياً أو متديناً، كما أن الشائعات طالت حتى عبقريته، فقيل إن هناك من كان يكتب له.. وهذه التكهنات ظلت حتى اليوم غامضة ولم يُبت فيها حتى اللحظة.
كل شيء حقيقي
لم يقتصر الأمر على الدارسين والباحثين والنقاد فقط أن يروا في شكسبير مادة دسمة للحديث عن حياته الخاصة ووضعها على طاولة التشريح، بل تعداهم إلى المخرجين السينمائيين أيضاً.
ورغم كثرة الأفلام الوثائقية والفيلمية عن حياة شكسبير، لكنّ أكثرها جرأة وتوضيحاً فيلم (كله حقيقي) لمخرجه “كينيث برانا” الذي مثّل أيضاً شخصية وليام شكسبير مسلطاً الضوء على السنوات الثلاث الأواخر من حياة شكسبير، إذ يبدأ الفلم من لحظة احتراق مسرح “ذي جلوب”، وهو مسرح شكسبير في العاصمة لندن عام ١٦١٣ والقرار الذي اتخذه شكسبير بالتقاعد وعدم الكتابة مجدداً والانزواء عن حياة الشهرة والأضواء والعودة إلى منزله في الريف في مسقط رأسه ستراتفورد آبون آفون.
يظهر المخرج العلاقة الباردة والجافة جداً بين شكسبير وزوجته “آن” منذ لحظة وصوله إلى بيته فهي لا تناديه إلا بكلمة (زوج)، وحين أراد الدخول إلى غرفة نومهما منعته آن -التي مثلت دورها الممثلة الإنكليزية القديرة جودي دانج- من الدخول إلى الغرفة قائلة: “تصبح على خير أيها الزوج, عشرون عاماً يا (ويل) ونحن لا نراك إلا قليلاً, فأنت بالنسبة لنا ضيف والضيف ينام على أفضل الأسرّة.”
على الطرف الآخر نرى غضب ابنته “جوديث” وعصبيتها إذ فقدت شقيقها التوأم “هامِنْت”، وهو الابن الوحيد لشكسبير الذي مات على نحو غامض حين كان في الحادية عشرة من عمره، وسبب الوفاة لم يُذكر في سجل شهادة الوفاة الحقيقية ولم يتحدث أحد عن سبب موت الطفل، لنكتشف فيما بعد أنه مات غرقاً! ولأن الأم “آن” متدينة فقد زعمت أنه مات بالطاعون وأن الله تقبّله، غيرُ معترفةٍ بأنه مات منتحراً والمنتحر بالنسبة للديانة المسيحية بمثابة العاصي.
نكتشفُ أيضاً أن غضب “جوديث” الداخلي وتحميل أبيها كل خساراتها الشخصية في الحياة ناجم عن حب والدِها أخاها الذكر وتفضيله عليها. ويُظهر المخرجُ شكسبيرَ، بكل صلابته التي عُرفَ بها، ضعيفاً ومنكسراً أمام ذكرى وفاة ابنه الوحيد “هامِنْت” وبكاءه وحزنه الذي تعترض عليه ابنته “جوديث” وتواجهه بعدائية وعصبية صارخةً بوجهه: “إنّ هامنت قد مات من سنينَ طوال وكلنا بكينا عليه وحزِنّا, فهل تذكرت الآن أنّ ابنك قد مات؟ لا تمثّل دور الفاقد الحزين بعد كل هذي السنين.” لنكتشف أنّ السرّ وراء هذا الحزن العميق أن “هامِنْت” كان يكتب الشعر وكان مولعاً بكتابة القصائد القصيرة وكان حريصاً على أن يُسمع والده ما كتب. لكنّ المخرج يكشفُ بُعداً آخر لهذا الحزن العميق في قلب شكسبير فهامنت هو الذكر الوحيد والوريث الوحيد الذي لو ظل على قيد الحياة لما تفرقت ثروة الأب شكسبير على أزواج بناته بحكم القانون الذي يُحكّم الرجال بما تملك النساء.
“جوديث” التي اتفق المؤرخون على عصبيتها وحدّة طبعها وعدم احترامها لأبيها شكسبير الذي دانت له رقاب الملوك، كانت تحمّل والدها كل ما تحمله من الأسى، فهي لا تريد الزواج من رجل سيتحكّم بها وبأموالها، كما أنها تعاني من عقدة الأميّة كأمّها “آن” فهي غير متعلمة على عكس أختها وأخيها، لنكتشف اللغز الأكبر في آخر الفلم حين تعترف لأبيها بأنها هي صاحبة الموهبة الحقيقية وأنها كانت تملي القصائد على مسامع “هامِنت” وهو كان يكتبها فقط وينسبها لنفسه ويتلوها على مسامع أبيه.
أما “سوزانا”، البنت الكبرى التي بدت أكثر اتزاناً، فهي متزوجة من طبيب محترم ولديها طفلة “إليزابيث”، لكنّ الذي لا يعلمه أحد أنها كانت على علاقة سرية مع أحد تجار القماش في المدينة!! وسرعان ما يُفتَضَحُ أمرها وتُعلَن خيانتها لزوجها الذي بدوره لا يفعل شيئاً حرصاً على الثروة التي سيحصل عليها من زوجته!
هذي العلاقة المتوترة بين شكسبير وأفراد أسرته والشبهات التي تدور حول عائلته تقودنا لنكتشف بأن شكسبير لديه عقدة كبرى في حياته ألا وهي الشعور بالنقص والدونية، فهو ليس من النبلاء وليس له لقب شريف يستند إليه ولم يكن من الأعيان كما أن والده “جون شكسبير” على الرغم من ثروته التي أخذها عن زوجته “ماري أندرن” إلا أنه مرّ بأيام عصيبة في آخر حياته وصار مَديناً بثلاثين جنيهاً، ما جعل الناس ينظرون إليه بعين السارق والمَدين والمتهرب من المثول أمام المحكمة.
ورغم أن وليام شكسبير استعاد أموال والده التي جُمّدت بعد موته، ورغم كل شهرته التي لم ينلها أي شاعر قبله، لكنه ظلّ يعاني من نظرة الناس إليه فاشترى لقب (جنتلمان) بعشرين جنيهاً إسترلينياً، وهو مبلغ كبير للغاية! للخلاص من عقدته، ولاسيما أمام أصحاب الألقاب.
هذا ما جعل المخرج كينيث برانا يسلط الضوء على هذه النقطة التي بدا فيها شكسبير ضئيلاً أمام نفسه وشاعراً بعقدة الدونية في حوارٍ صادقٍ جمعه بنبيل ساوثهامتن حين زار شكسبير في منزله في محاولةٍ لثنيه عن اعتزال الكتابة وتذكيره بماضيه العظيم وحاجة لندن إليه, وأثناء الحديث ذكر نبيل ساوثهامتن أمام شكسبير “السير توماس لوسي” الذي كان عضواً في البرلمان وممثلاً عن مدينة ستراتفورد آبون آفون أنه حاول استمالته للنزول عنده ببيته، فرد عليه:
“أنا هنا لزيارة أعظم رجل في المملكة بعد الملكة.”
فأجابه شكسبير:
-السير توماس لوسي كان ينال مني كثيراً.
فأجابه نبيل ساوثهامتن:
– لماذا تتركه ينال منك؟
وبمحاولة لإقناع شكسبير بعدم النظر إلى نفسه بهذه الدونية يقول نبيل ساوثهامتن:
– توماس لوسي لا يملك شيئاً غير لقبه وعائلته فهو فلان بن فلان وأبوه ابن فلان وجده ابن فلان ولا يملك غير ذلك, أنا مثله أيضاً فأنا فلان بن فلان وأبي ابن فلان ولا أدري ماذا سأصبح لو لم أكن ابن فلان! بينما أنت …
فيقاطعه شكسبير بسرعة:
-ابنُ سارق!
فيرد عليه النبيل بحسرة:
– بل ابن أبولو إله الشعر، إله الحقيقة!
وفي لحظة صمت بين شكسبير وإيرل أوف ساوثهامتن يُفجّر المخرج مشهداً من المسكوت عنه في حياة شكسبير حين يبدأ شكسبير بقراءة أبيات القصيدة التي كتبها وهو يتغنى بجمال ويفاعة وقوة الشباب المتدفق في عروق نبيل ساوثهامتن ويحس الرجل من شكسبير ميلاً له ليوقفه قائلاً:
“لا تنسَ نفسك يا ويل، إنه مجرد إطراء شعري مقبول عندي، إنه الشعر وحده الذي يخلق الجمال وما نحن سوى عبيد في حضرة الشعر.”
استطاع الفلم أن يسلط الضوء بجرأة كبيرة على كل المسكوت عنه والغامض في حياة شكسبير كعقدة عدم إنجابه للولد الذكر ما جعله يسجّل معظم ثروته لابنته الكبرى سوزانا بشرط “أن تورّثها كاملةً لأول ابن ذكر من رحمها.” كما سلط الفيلم الضوء على مشكلته مع ابنته التي اعترفت بغيرتها من أخيها بسبب تفضيل أبيها إياه عليها ما دفعها لجعله ينتحر غرقاً رغم عدم ثبوت هذا التأويل. لكن الثابت في السجلات أن “جوديث” تزوجت قبل وفاة أبيها بشهرين وأنجبت ثلاثة أولاد ذكور ماتوا صغاراً ولم تبق سوى إليزابيث ابنة سوزانا التي تزوجت مرتين ولم تُنجب، وبموتها يكون انتهى الخط المباشر لسلالة شكسبير.