عرفانيَّة الموشّحات الرمضانية مــــــن تُحـــــف النقشبنــــــــدي إلى طبّالي التفاهة!

176

عادل مكي /

ليس مصادفة أن يُقرن اسم الموشّح الوجداني بعرفانية وخصوصية الوشاح الذي تتزيّن به المرأة، وهو يُنسج ويغزل من الأديم المرصّع بالجواهر، باعتبار أن وجه الشبه بينهما هو أنّ الموشّح يزدان بالقوافي المنوّعة والأوزان المتعددة بسحرها، علماً بأن فنون الابتهالات والتواشيح هي فنون أصيلة في وجدان الشعوب، ولاسيما المصريين، لأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحب الله ورسوله وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام. وهو أمر طالما عرفوا به، كما ارتبط أيضاً بسمو الذات.
يعتقد أن فن الابتهالات الدينية كان موجوداً منذ عهد الرسول (ص)، إذ ما إن يهل شهر رمضان، حتى تبدأ الشعوب العربية والإسلامية في التعبير عن فرحتها بقدومه بطقوس متوارثة وموشحات وأناشيد فرحاً بهذا الشهر الفضيل، فهو أهم الشهور التي ينتظرها المسلمون من عام إلى عام، ويحتفلون به صانعين له روحاً خاصة تبدأ بأغاني الصبية مع فوانيسهم الملونة، التي هي موروثة من العهد الفاطمي، فإذا جاء الليل تتلو المآذن كلام الرحمن، وبين نصف النهار وآخره، ينتشر الصمت المطبق للصائمين المتعبين، فيلجأ بعضهم إلى فراشه صابراً ينتظر أن يكسر أذان المغرب النوم والجوع معاً، بينما تقف في الجانب الآخر سيدة المنزل وربّانه، فهي تقود دفة ومحرك ذراعيها كي تكمل مائدة الإفطار التي ترنو إليها القلوب والأفئدة مليئة بما لذّ وطاب من طعام وشراب، منتظرين لحظة الإفراج عند ارتفاع صوت المؤذن بـ (الله أكبر)..
يعتقد الكثيرون أنّ الغناء الديني أو الموشحات الدينية في مصر قد ظهرت خلال العصر الفاطمي الذي منح مصر تاريخها وإرثها الإسلامي اللذين عرفت بهما فيما بعد، إذ لم يكن الفاطميون يتركون أية فرصة احتفالية مرتبطة بالرسول وآل بيته، إلا وملأوها بالإنشاد والاحتفال، إذ تذكر كتب التاريخ، وتحديداً في العهد الفاطمي، بروز ظاهرة المسحرچي، كما تسميه بغداديتنا، أو (المسحراتي) كما يسمونه هم، وهو الذي كان حينها يتولى إنشاد التسابيح والابتهالات الخاصة بليالي رمضان وقت السحر وإيقاظ الخليفة والشعب قبيل أذان الفجر لتناول السحور، ثم بعد ذلك ورث المسلمون والمماليك معظم عادات الفاطميين الاحتفالية.
ولم يلمع نجم الأغنية أو الأنشودة أو التواشيح الرمضانية في العالم العربي، إلا بعد نشوء الإذاعة المصرية عام 1936، التي قامت بتكليف نخبة من الشعراء والملحنين بتقديم القصائد والكلمات الخاصة بشهر رمضان، كي تُبث إلى الناس، سواء على شكل فواصل أو أغنيات أو تواشيح كاملة، وبمختلف المواضيع الخاصة بهذا الشهر الفضيل، فلمعت أغنية (رمضان جانا) لمحمد عبد المطلب، التي سميت بنشيد رمضان، التي تتحدث عن الشوق واللهفة لقدوم هذا الشهر المميز. ثم توالت التواشيح والأغاني مثل (هاتوا الفوانيس يولاد) لمحمد فوزي، وللثلاثي المرح (رمضان أهو جا يولاد)، كذلك أغنية (وحوي وحوي) التي انتجت عام 1934 وغناها أحمد عبد القادر ولحنها أحمد الشريف، كذلك نجح (الديو) المميز والمعروف، الذي مازال عالقاً في الذاكرة بين الفنانة صباح والفنان فؤاد المهندس في أغنية (الراجل ده هيجنني)، ثم دخل على الساحة الغنائية الصوت المعبر ذو الإحساس المرهف للفنانة نجاة الصغيرة ممزوجاً بروح وجدانية في ابتهال (إلهي ما أعظمك)، من كلمات الشاعر حسين السيد وألحان رياض السنباطي، المبحر في سماء الخالق العظيم.
أما في العراق، فكلنا نتذكر الأغنية المميزة للأطفال (ماجينة ياماجينة حِلي الكيس وانطينه)، التي لايزال صداها في أذهان الكثيرين، لكن يبقى شاخصاً موشح (يا إله الكون إنا لك صمنا)، رائعة الفنان الملحن الكبير روحي الخماش ومن شعر الشاعر هشام الحلي، التي أدتها فرقة الإنشاد العراقية العتيدة، وقد امتاز هذا اللحن بسلاسة النغم من مقام العجم وبساطة الإيقاع وعذوبة الجمل الموسيقية، وقد اعتُبر نشيد العراقيين لشهر رمضان لما له من نفس وجداني وروحاني كبير.
وأيضاً تذكر الأراشيف الرمضانية الموسيقية الدسمة كيف جاءت ملحمة بليغ حمدي عندما عرض على السيد النقشبندي عرضاً بقوله “سألحن لك موشحاً دينياً يعيش مئة عام”، رغم تخوف النقشبندي من أنه سيغني موشحاً من ألحان بليغ حمدي الذي اتصفت ألحانه بالموسيقى الراقصة، رافضاً الفكرة من أصلها، إلا أن ثقة بليغ حمدي بنفسه وبما سوف يقدمه لتاريخ الموشحات الدينية أكسبته رهان اعتقاده، وما سيقدمه للنقشبندي، الذي ما إن سمع اللحن حتى أصيب بالذهول وخلع عمامته فرحاً، ليخرج للناس موشح (مولاي إني ببابك قد بسطت يدي)، أيقونة الألحان، الذي عمّر وسيعمّر مدى الدهر. والسؤال هنا: كم سنحتاج من الزمن كي نصنع رائعة كهذه التحفة الفنية بعد أن غزت التفاهة والسذاجة والردح معظم الفضائيات العربية التي تعيش في تسابق محموم وصراع تجاري لا أخلاقي بعض الأحيان، ولاسيما في شهر رمضان، وهي تقدم مسلسلات وبرامج تسابقية أو كاميرات خفية لا تليق بعظمة هذا الشهر، لأنها خالية من المضمون، بل كاشفة عن إباحيتها في أكثر مشاهد المسلسلات، الأمر الذي بات من الصعب السيطرة عليه، كونها غزت معظم البيوتات العربية بعد أن أغدقت تلك الفضائيات المال الوفير كي تستقطب إليها أكثر المشاهدات. وما يؤلم أكثر هو أن الأمر خرج عن السيطرة ويحتاج إلى أكثر من وقفة وأكثر من قرار، لأنها مخصصة لتستهدف روحانية هذا الشهر الفضيل، شهر الطاعة والغفران، شهر رمضان المبارك.