عن ايام “سينمات” بغداد وليالي شارع السعدون

575

عادل مكي /

كانت بغداد ومازالت تعج بمظاهر التمدن الثقافي والمعرفي، وتتنافس مع القاهرة في المجالات الثقافية والفنية، فبغداد، التي عشقها الشعراء والفنانون والأدباء، كانت صرحاً ثقافياً كبيراً تمتزج فيه كل أساليب الحداثة، إذ كانت –بحق- قبلة الزمان ودار السلام ومدينة ألف ليلة وليلة والأربعين حرامي، ومثلت على الدوام إحدى أهم حواضر الفن والمعرفة.
وكانت لشارع السعدون العريق -عبر الأزمان- حصة الأسد من أيامها ولياليها، فقد كانت بغداد تسهر حتى الفجر في ليلها المخملي، الذي لا يشبه أي ليل في كل بقاع الأرض، حيث المسارح والصالات الثقافية ومعارض الرسم وصالات السينما في أوج عطائها المتدفق الذي رسم ملامحها الفاتنة.
يمثّل شارع السعدون في بغداد أحجية غريبة، ففيه تجد أرقى محال الخياطة، مثل خياطة أحمد حسن، الخياط الخاص للرئيس الراحل أحمد حسن البكر، المحال التي كان يرتادها غالبية ذوات بغداد من السفراء الأجانب والوزراء، كذلك مكاتب السفر والسياحة وشركة الخطوط الجوية العراقية وفندق بغداد الشهير وشركة التأمين الوطنية الرصينة وشركة الأسماك العراقية، التي كانت تجلب لبغداد أرقى أنواع الأسماك المجمدة وبمختلف الأنواع والأشكال.
الشاي المعتق
وكانت دور السينما أبرز معالم هذا الشارع، حيث توجد عدة صالات للسينما كبابل والنصر وأطلس وسميراميس، وشاءت الأقدار أن أجد نفسي، وأنا طفل صغير، في (جايخانة) أبي وأعمامي أعمل معهم في جلب الأقداح الفارغة، وهي عبارة عن استكان مذهب وماعون بنفس الشكل يستقر فيه الاستكان، ومازال منظر (أبو الفرفوري) عالقاً في ذاكرتي حين كان يأتي إلينا -بين فترة وأخرى- لإصلاح (القواري) التي تتكسر بفعل الاستخدام والحرارة المستمرة، إذ يعمل أبو الفرفوري بوضع أسلاك تحيط بكل جهات (القوري) ويمزجها مع مادة خاصة تشبه الإسمنت الأبيض على الأطراف، فيصبح جاهزاً للاستخدام مرة أخرى. و(القوري) هو دلو متوسط الحجم يستخدم لتحضير الشاي على نار هادئة من الفحم، الذي قال عنه الشاعر نزار قباني في قصيدة (بلقيس): الشاي العراقي المعتق كالسلافة، نعم كان الشاي العراقي ذا نكهة خاصة ومميزة.
سينما بابل
في الجدار الملاصق لسينما بابل كانت (جايخانة) أبي في شارع السعدون نهاية سبعينيات القرن الفائت، أي الفرع الملاصق لها من جهة والمعرض الروسي من جهة أخرى بالقرب من مطعم كبة (أبو يونان) الشهيرة التي كانت تتميز بمذاقها الفريد.
كانت سينما بابل صرحاً ومكاناً راقياً تقصده العوائل العراقية لمشاهدة عشرات الأفلام العربية والأجنبية المحترمة، حين كانت السينما بإدارة مالكها (الحجي محمد) تملك شركة خاصة بها تقوم باستيراد جميع أنواع الأفلام من كل دول العالم، وأذكر أني كنت شاهداً، حين كنت طفلاً صغيراً ألبي طلبات كادر السينما من الشاي العراقي والحامض من (جايخانة) أبي المتواضعة، على جودة الأفلام التي كانت تعرض في صالتها مثل فيلم (أبي فوق الشجرة) لعبد الحليم حافظ، و(نحن لانزرع الشوك) لشادية، و(أم الهند) وفيلم (لا يا ولدي)، وفيلم (الرسالة) النسخة العربية. وكانت سينما بابل وسينما النصر، القريبة منها ببضعة أمتار، تتنافسان تنافساً شريفاً في عرض الجديد والحديث من الأفلام العربية والأجنبية باحترافية عالية وجودة فائقة.
الشاي مقابل مشاهدة الأفلام
كانت الصالة مكيفة بشكل لا يوصف، فيها (لوجات) في الطابق الثاني مطله على الشاشة، وكانت تستخدمها العوائل العراقية لأنها كانت موزعة بشكل جميل، وكنت استرق النظر والمشاهدة من خلال غرفة الماكنة العملاقة التي كانت تعرض تلك الأفلام، وكنت أبحث عن (أدور)، ذلك الفتى المسيحي الذي هو المسؤول والمشغل لها، إذ كنت أزوده بالشاي كل نصف ساعة كي أتمتع بالنظر إلى تلك الأجهزة والأشرطة السينمائية وهي تبث الحياة على الشاشة.
رقابة ذاتية
كانت إدارة سينما بابل هي المسؤولة عن تقديم وعرض الأفلام الجديدة، فبعد مشاهدة الفيلم المراد عرضة على شاشتها، تختار يوماً محدداً تغلق فيه أبواب السينما ولا تسمح لأي شخص بالدخول إلى الصالة، فقط الحاج محمد، مالك السينما وصاحبها الشرعي، ومعه اثنان أو ثلاثة اشخاص من شركة الاستيراد التي تملكها السينما و(أدور) مشغل ماكنة العرض.
هذه اللجنة كانت مهمتها الأساسية معاينة الفلم من حيث الجودة والمضمون، وهل هو مناسب أن يعرض للعائلة العراقية، وإن كانت هناك مشاهد غير مرغوب بها، يطلب حجي محمد من أدور المشغل أن يحذف تلك المشاهد بعد أن تقص وتلصق من جديد على الشريط السينمائي.
كانت هناك رقابة ذاتية مجتمعية يعيها الجميع، تلك هي الأخلاقيات السائدة إبان تلك الفترة، التي كانت بغداد فيها في أوج عصرها الذهبي، وقد كانت هناك رقابة لا تحتاج الى رقيب، فالكل يعرف حدود المسموح وغير المسموح، لقد كانت السينما مكان تلاقي العوائل العراقية، لأنها كانت أماكن محترمة تقدم فناً يرتقي بالمجتمع كما كانت واجهة ثقافية معرفية أسهمت في نشر الوعي لأنها كانت الوسيلة الوحيدة التي تربطنا بالعالم الخارجي، حيث لم يكن هناك إنترنيت أو وسائل تواصل تطلعنا على العالم الخارجي.. نعم كانت السينما ملاذاً آمناً للجميع لأنها كانت تقدم محتوىً راقياً يليق بالعراق والعراقيين.