فنانون يرثون أنفسهم قبل رحيلهم!

744

سعدون شفيق سعيد/

لا أذكر من القائل: (لقد سمحت لنفسي بأن أنظر إلى الموت بوصفه استعارة للحياة)، لكنّ موت الفنان ليس إلا وهماً، ذلك لأن خلود الفنانين بخلود آثارهم، ولهذا علينا أن نتعامل معهم دائماً بصفتهم أحياءً، ولا يمثل الموت إلا انطفاء حياة الجسد وإن لم يعنِ انطفاء جذوة الحياة في ما يتركه الفنان المبدع من أعمال. لكنّ الموت ـ مع ذلك حقّ ـ وهو النهاية المحتومة لكل كائن، ولهذا كان الشاعر المعريّ على حقّ حين قال:

خفّفِ الوطءَ ما أظنُّ أديمَ الأرض إلا من هذه الأجسادِ

سرْ إن استطعتَ في الهواء هويناً لا اختيالاً على رفاتِ العبادِ

ولهذا فكرتُ ذات يوم أن أكون مع شريحة من أهل الفن لاسترجاع رحلة العمر؛ مستذكراً ما تركوه من آثار زاخرة بالعطاء، طالباً منهم رثاء أنفسهم قبل الرحيل “بعد عمر طويل إن شاء الله”.

مهمة شاقة

وهكذا جاء هذا الريبورتاج زاخراً بالرثاء، فهنا بضعة فنانين مبدعين يندبون أنفسهم قبل رحيلهم، وهي مهمة شاقة كما هو واضح، فعليك أولاً أن تتخيل نفسك ميتاً ثم تتخيل كيف هو العالم من دونك، ثم عليك أخيراً أن تتقمص دور الراثي لنفسك وليس لأحد آخر سواك. وبسبب صعوبة الأمر، فإنّ بعض الفنانين اعتذر لكونه حاول لأيام عدّة استيعاب حقيقة رحيله لكنه لم يستطع كتابة سطرٍ واحد يرثي به نفسه؛ ومع ذلك جاءت هذه الحصيلة الشجاعة المهيبة والزاخرة بالخشوع والرهبة من الموت استقبالاً لدار الآخرة، من قبل أحياء أطال الله أعمارهم.

المفارقة أن الفنان عبد الجبار الشرقاوي والفنانة فريال كريم اللذين رثيا نفسيهما هنا في هذا الريبورتاج وهما على قيد الحياة فارقانا وطوتهما يد الموت بعد فترة قصيرة من رثائهما لنفسيهما. فما أقصر الحياة وما أكثر مفارقاتها المؤسية.

لنرَ الآن كيف يرثي فنانونا الأحياء أنفسهم قبل موتهم.

المخرج والممثل “حيدر منعثر”: غابة بلون الصمت

استميحكم صبراً.. فقد جاء رحيلي في لحظة لم يكن باستطاعتكم جدولتها ضمن زحام انشغالاتكم بالحياة وهي تبخل علينا بأنفاس المرتجى منها. ولذا سأجنبكم الخوض في مزالق رثائي والبحث عن أعذب الكلمات تهدجاً لوداعي. إذ أرثي نفسي بالنيابة عن كل تلك القادمات من محن ومباهج الذكرى والنسيان وألعوبة الحزن ومرادفاته العجيبة. دعونا نتبادل الموقع نحن الأحياء والموتى معاً ونؤكد أننا لسنا بلا أمل، فالجريمة الأصعب بقيتْ يا أصدقائي بلا حلّ.

لقد ورثت معترفاً وأنا في كامل قوّتي الموتية غابة بلون الصمت لكني اليوم أعدو في غابة أخرى. ففي منتصف الحياة يحدث أن يأتي الموت ويأخذ قياساتنا ومساراتنا. وللأسف هذه الزيارة اليتيمة لا تذكر، والحياة تستمر. لأننا كلنا نائمون، والجميع يحلمون، والبشر المحلوم بهم أكثر من أحلامنا لكنهم لا يشغلون مكاناً، لأن المشهد الثاني قد بدأ فعلاً، فهنالك في المقدمة ثمة مسرح يلفه حلم، وبعدها لا يعود مسرحاً. إنه أنت، لأني هناك. فلقد رحلت هكذا بلا موعد لألتقي حتماً بذاك الذي يرفع فانوسه ليرى نفسه من خلالي.
الفنانة “آمال ياسين”: لا تتركوني وحيدة!

رفقاً أحبتي. اذكروني كلما تذكرتم وداعكم لي وأنا محمولة على أكتافكم في مراسيم رحيلي وأنا اغادركم بعيدة عنكم. والحقيقة انني حينما كنت أرى حزنكم على رحيلي ووجوهكم الطافحة بمحبتي واحترامكم لما قدمته لكم من عطاء، وقتها تمنيت أن أقول لكم: لا تحزنوا لأنني ذاهبة لأولئك الذين أحببتهم وأحبوني، الذين سبقوني وتركوني وحدي.
لا تتركوني أسير وحدي باتجاه رحيلي الأخير. لأنني أشعر بوحشة لا أتمناها لكم.

المخرج والممثل فلاح إبراهيم: لا تلعنوني!

شدّ ما يرعبني الموت. والأكثر رعباً لي هو أن أرى نفسي محمولاً على أكتاف أهلي وأصدقائي.

أجمل شيء أتمنى أن أراه هو أن يكون مجلس فاتحتي مناسبة تحدث فيها المقالب وتقال فيها النكات! لكنْ أتمنى أن لا يلعنني أحد!
الفنان الراحل “عبد الجبار الشرقاوي”: لم أتزوّد للرحيل!

ما أعاد الرثاء يوماً الحياة للأموات، وما أضاف عمراً مضافاً لأحد. لهذا لا أظنني متلهفاً أو متحمساً لرثاء الذات. ومع ذلك قد أرثي نفسي لأنني لم أعش حياتي كما يجب أو لأنني فرطت فيها أكثر مما يجب. ولم أحقق بالعمل أحلاماً قد علقتها على رفوف الأمل، ولم أتزود للرحيل كما ينبغي بزوادات السفر.

تلك مرثية الراحل الشرقاوي قبل رحيله والتي قال في ختامها: (في الحقيقة لم اعتبر بكل ما فاتني من دروس وعبر)!

الممثلة “ميلاد سري: كلّ شيء زائل

حينما سأرثي رحيلي لابدّ أن استذكر كل ذلك الإرث الذي خلفته في حياتي كي يكون ذلك الأرث دعوة للمحبة والصدق والالتزام لكلّ الذين سيسيرون على هذا الطريق.
دعائي أن يكون إرثهم يرتقي لمستوى المسؤولية لأن الأعمال هي الباقية. وكلّ شيء زائل.

المخرج “عزام صالح”: من العدم إلى ربّ رحيم!

لقد جاء من العدم إلى العدم وعاش بعيداً عن أهله، غريباً بين أصدقائه ومعارفه. كرهه الذين لا يعرفونه وأحبه الذين عرفوه. وكان يريد أن يمسك الزمن ليحدّ من دورانه ولكنّ الجميع كانوا مع الزمن. وهكذا بات كذاك المهرج الضاحك الذي ضحك على الدنيا وما فيها.

ذهب أو جاء. لا فرق سوى أنه رأى. ولكن قضبان الحياة شاهقة فأراد تحطيمها. لكن ذكراه كانت تنسى سريعاً، ولهذا كان عليه أن ينسى الذين نسوه. ولهذا بات في طريقه إلى الحقيقة مع الله. ولا حول ولا قوة الا بالله. وليرحم الله من في الحياة. و”كلّ من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”.

الممثلة والكاتبة الراحلة “فريال كريم”:

الموت حق والمنية تأتي فجأة. والموت أقرب من حبل الوريد. والحياة قطار. وعندما يتوقف القطار في محطة من المحطات يترجل المرء مجبراً. ولو حضر الموت فإنه يدرك المرء ولو كان في بروج مشيدة. وهو كالظل يلازمنا وعلينا أن نؤمن بأن الموت طرفة عين.

الفنانة التي رحلت عنا فعلاً، اختتمت رثاءها لنفسها بهذه الأبيات للإمام عليّ “ع”:

جزى الله عنا الموت خيراً فإنه

أبرّ بنا من كل شيء وأرأفُ

يعجّل تخليص النفوس من الأذى

ويدني من الدار التي هي أشرفُ.