فيلمون وهبة.. ملحن فيروز المنسي

200

عادل مكي/

صوت فيروزيّ الملمس ودافئ الروح، يضخ الحياة بتموجاتهِ النغمية ويحتل القلوب التواقة للجمال وينساب بين أخاديدها بسلاسة وهدوء ملائكي عبر الآذان والوجد المرصوف بالأحلام والأمنيات، كيف لا وهي عصفورة الشرق القادرة على استخراجك حياً من باطن لهيب الحزن لترسلك طائراً فوق الغمام.
فيروز التي امتعتنا بـ (بعز النوم بتسرقني) و(جايبلي سلام) و(يامرسال المراسيل) و(يادارة دوري فينا) و(فايق ياهوى) و(على جسر اللوزية) و(كتبنا وماكتبنا) و(طيري ياطيارة) و(انا خوفي)، حتماً هنا سيتبادر الى ذهنك أن تلك الأغاني الرائعة هي من صنع الأخوين رحباني، لكن الحقيقة أن تلك الأغاني، ولسوء حظه، هي جميعها من ألحان الفنان المغيّب بسبب أو بغير سبب، شيخ الملحنين اللبنانيين فيلمون وهبة، الذي أبدع في صناعة تلك الأغاني الكنزية لشاعرها المخضرم جوزف حرب. فموهبة صاحب أكبر إنجاز غنائي في التلحين، وبحدود (200) أغنية للمطربة صباح، هو الملحن الذي لحن أغنية (بتروحلك مشوار) وأغنية (حلوة وكذابة) لوديع الصافي، كما لحن أغنية (برهوم حاكيني) لنجاح سلام، الأغنية التي رددها عشرون مليون مصري بعد إذاعتها في إحدى الحفلات، ولسميرة توفيق أغنية (ياهلا بالضيف ضيف الله). أيضاً لحّن فيلمون وهبة لصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين ونجاح سلام وسميرة توفيق وعصام رجي وملحم بركات، وسواهم من كبار الفنانين اللبنانيين، كما لحَّن لفنانين كبار في العالم العربي مثل وردة الجزائرية وشريفة فاضل وفايزة أحمد. فهذا الرجل ظاهرة عالمية كبيرة لم تسلط عليها الأضواء، وقد غبن كثيرا من جهة الأخوين رحباني، لكن المقربين من الوسط الذي أحيط به وبفيروز وبالأخوين رحباني يعرفون هذه الحقيقة المطلقة والموهبة الكبيرة لذلك الفنان الظاهرة، فقد قال عنه محمد عبد الوهاب “إنني لا أعزّي بموت فيلمون وهبة العظيم، إنما أعزي الأصوات التي كانت تنهل من منبعه الغزير.” أما كملحن، فقد كان الوحيد الذي تغنِّي له فيروز لحناً واحداً على الأقل في مسرحياتها، وقد وصفته بأنه سبع الأغنية وشيخ الملحنين، إذ قدم ألواناً متعددة من الغناء وأغاني تتجدَّد نضارتها ويزداد ألقها وحضورها في الوجدان من جيل إلى جيل. وقد جمع القدر بين الأخوين رحباني وفيلمون وهبة، فقد كانوا خبز الفن والحياة وملحهما. وحدث كثير من القصص والمواقف الفريدة، ومنها أن أم عاصي عندما سمعت «يا دارة دوري فينا» قالت لعاصي “ريتك تقبرني شو حلوي هالغنية ما بقى يصير أحلى من هيك”، فردّ عاصي قائلاً: “هيدي لحّنها القرد (فيلمون) مش أنا، ويقصد هنا بالملحن المتفرد فليمون وهبة.
كان فليمون في عام 1937، مغنياً يردد المواويل البغدادية (العراقية طبعاً) والأدوار القديمة، عاد من فلسطين إلى لبنان، ودخل (راديو لوفان)، أي إذاعة بيروت، وفيها راح ينشد من ألحان ميشال خياط ونجيب الشلفون، واستمر في الغناء أربع سنوات. ثم سافر، مرة أخرى، إلى فلسطين (يافا) ليعمل في محطة الشرق الأدنى، وهناك بدأ بالتلحين، وكان لحنه الأول (على مهلك يا مسافر)، ولحنُه الثاني (حملتني فوق الألم)، بصوت مطربة تُدعى حنان، وتبعهما لحن (بابا ما دريش بي) بصوت نجاح سلام، ثم توالت الألحان ودخل معها فيلمون إلى جميع الإذاعات العربية.
تزوج فيلمون بمطربة شقراء اسمها (جانيت خوري)، التي عرفت باسم (تغريد الصغيرة)، التي كانت تغني في ملاهي ومسارح بغداد، وكانت مطربة ناجحة ومميزة، ثم عادت من بغداد هي وزوجها بعد أن عملا في مسرح (روكسي) ببغداد مدة ثلاثة أشهر متواصلة، وأذاعا حفلات غنائية أسبوعية طوال هذه المدة من محطة الإذاعة العراقية. يقول فيلمون وهبة إنه كثير الإعجاب بالخُلُق العراقي وبالفنانين العراقيين الذي تعاون معهم أثناء وجوده هناك، وأن بغداد قدّرته فنياً أكثر من أي بلد آخر، وكان يودّ البقاء في العراق لولا أن زوجته حامل، وقد رغبت في أن تضع مولودها البكر في كفرشيما، مسقط رأس السيد وهبة. في فلسطين كانت انطلاقة فيلمون وهبة كمطرب في العام1946، لكنه ما لبث أن وجد نفسه في التلحين والموسيقى فالتحق مع زملائه أمثال حليم الرومي ونقولا المنِّي وسامي الصيداوي وزكي ناصيف والأخوين الرحباني والمخرج صبري الشريف بإذاعة الشرق الأدنى في خمسينيات القرن الماضي، ثم بإذاعة لبنان الرسمية. تألق نجمه في التلحين والتأليف والتمثيل الكوميدي، فهو الفنان الموهوب الذي لم يدرس النوتة أبداً، كما قال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب، حيث يتَّصف العباقرة بمواهب فطرية. فالمخترع أديسون اخترع المصباح الكهربائي على الرغم من رسوبه في مادة الرياضيات عندما كان طفلاً، وفيلمون وهبة عبقري قدَّم أروع الألحان الشرقية المميَّزة من غير أن يدرس الموسيقى، وحتى من دون أن يتقن العزف على العود، أو على غيره من الآلات الموسيقية التي لا غنى لأي ملحن عن استخدامها خلال ممارسة التلحين. أما أدوات التلحين، مثل التدوين (النوتة الموسيقية) وما يتبعها من علوم الأوزان والإيقاعات والمقامات، فلم يسعَ في حياته إلى تعلُّم شيء منها، لكنه امتلكها بالفطرة التي كانت كل رأسماله في الإحساس بالأصالة.
ترجمت أعماله وموسيقاه في أوروبا، ولاسيما أغنيات «بسيطة» و«دايشتك بوم» و»قلبي نازل دق» وغيرها، على يد أساتذة موسيقيين مثل الإيطالي (إدواردو بيانكو) والبريطاني (رون غودوين)، كما أنشدت فيروز أغنيته الشهيرة «جايبلي سلام» في باريس في احتفالات الذكرى المئتين للثورة الفرنسية، ويومها كان صوت فيروز الصوت العربي الوحيد الذي شارك في إحياء الذكرى. فاق عدد ألحان الفنان فيلمون وهبة الألفي لحن، كما أنه شارك في العديد من المهرجانات اللبنانية والعربية انطلاقًا من مهرجانات بيت الدين إلى مهرجانات بعلبك الدولية ومهرجانات الأرز وجبيل ومعرض دمشق الدولي ومسرح البيكاديلي فمسرح الكابيتول وستاركو وغيرهما، برفقة رفاق الدرب فيروز والأخوين رحباني وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين. وتقديراً لعطاءاته الفنية المميزة حاز الفنان فيلمون وهبة العديد من الجوائز والأوسمة، منها وسام الأرز ووسام الاستحقاق من لبنان، وعدة أوسمة من الجيش اللبناني، إضافة الى جائزة سعيد عقل والعديد من الأوسمة العربية.
يقيناً سيبقى الشعب العربي يتذكر أغاني فيلمون وهبة الخالدة بشغف دون أن يتعرف جلياً على صانعها، المغيب بإرادته أو بدونها، لأنه كان ظاهرة فطرية قلبت موازين النغم العربي من المحيط الى الخليج.