فيلم “الأرز والفولاذ”.. صرخة بوجه الأبراج الكونكريتية!

598

جبار عودة الخطاط /

تصورت، وأنا أتابع فيلم “الأرز والفولاذ” في سينما (متروبوليس أمبير– صوفيل) في الأشرفية ببيروت، بأنني أحد أبطال الفيلم ممن تملكتهم مشاعر الاغتراب، وغياب الألفة والعلاقات الحميمة، فقد رجعت بذاكرتي لسنوات خلت في بدء إقامتي في بيروت، فوجئت حينها بغياب الصلات الاجتماعية بين أبناء العمارة التي كنت أسكنها، عندما جاء العيد ووجدت بأن جيراني في البناية لا يتبادلون التهنئة والتبريكات بالعيد برغم قرب أبواب الشقق من بعضها في الطابق الواحد، بحيث لا يفصلها سوى متر أو نصف متر! بل أن السكان لا يعرفون حتى أسماء جيرانهم!، تعذر عليّ في البدء استيعاب ذلك لأنني ابن منطقة شعبية في بغداد دأب أبناؤها على التواصل الاجتماعي، وتفقّد بعضهم والتزاور في المناسبات، ثم ما لبثت أن تأقلمت على ذلك، وربما يكون هذا الأمر أقل وطأة في الضاحية الجنوبية، ويختلف من منطقة لأخرى،..

هدم الوشائج الاجتماعية

“الأرز والفولاذ” فيلم مفعم بالبعدين الاجتماعي والإنساني، اذ يشير إلى انحسار مساحة العلاقات الإنسانية الناجم عن هدم الأبنية التراثية والتقليدية في بيروت، وهو يقول بمقاربة سينمائية محكمة أن هدم الأبنية التراثية والتقليدية، هو هدم لروح الوشائج الاجتماعية النبيلة التي اختفت وانحسرت إثر تمدد الأبراج وكتل الكونكريت لتقضم مساحات التواصل النبيل. فعلى مدى ساعة يصور الفيلم يوميات حياتية لقاطني بناية تقليدية في بيروت، ويسلط الضوء على طبيعة العلاقات الاجتماعية المكتنزة بالود والتفاعل الحميم فيما بينهم.

مشاركة الفنانة الفرنسية فاليري فنسان مخرجة الفيلم مع سكان تلك البناية ساعات حياتهم الحافلة بالنبل والبساطة والتواصل، أثرى ثيمة الفيلم، فكانت هي الشخصية المحورية فيه، من خلال سرد قصتها الحقيقية وسكنها في بيروت منذ 12 عاماً، فهي تسكن في شقة مجاورة لهم، بيد أنهم، وهنا تكمن المسألة المؤلمة، يضطرون لتركه لاحقاً ليتم هدمه!

صرخة بوجه الكونكريت!

فيلم “الأرز والفولاذ”، يطلق صرخة بوجه غول الباطون (الكونكريت) كما اسمته مخرجة الفيلم، وهو هنا لا يدافع عن الأبنية التراثية المعروفة لبيروت فقط، برغم الأهمية الاستثنائية لتلك الأبنية، هو يذهب أبعد من ذلك ليصدع بدفاعه عن الحياة الاجتماعية التي صارت تطوى صفحاتها مع هدم كل بناية، لتحل محلها العمارات الصماء، فيتشتت السكان في مناطق أخرى، ويخسرون الروح الزاخرة بالحيوية والدفء، ليتحسروا على القيَم التي كانت تجمعهم والتي صارت جزءاً من الأمس الجميل بفعل نمطية الحياة الجليدية في الأبراج التي ارتفعت على أنقاض (البيوت) القديمة، فهم ينظرون للعمارات الحديثة بأنها حُجُب كونكريتية، تحول بينهم وبين السماء والأفق!

صباحات القهوة و(المناقيش)

الفيلم الذي انتجته الناشطة اللبنانية ندى طراف لشركة Darkside مع شركة A ProPos الفرنسية، يقدم مشهدية لذيذة لـصباحات القهوة وتناول (مناقيش الزعتر) وغيرها من اللحظات الجميلة لحياة سكان ذلك المبنى الذي أصبح نسياً منسياً، حياة تحلق في فضاءاتها فراشات الود والمحبة التي جعلت من جيران البناية الواحدة، والحي الواحد وكأنهم أسرة كبيرة، يتفقد بعضهم بعضاً فما تتميز به طبيعة أبنيتهم التقليدية هو تلك المساحات التي تتيح لهم روحية التواصل والتآلف المحببة لديهم.

الفنانة فنسان مخرجة الفيلم-الوثيقة تقول: “يقدم الفيلم أسلوب حياة يختفي يوماً إثر آخر، وقصة مدينة بدأت تتغير هويتها، تلك المباني التي تحمل ذاكرة شعب بأكمله، تتعرض للهدم، ومعها تسحق أيضاً العلاقات الاجتماعية، ويرتفع مكانها مستقبل من الكونكريت والحديد”، وتضيف: “الفيلم وثائقي صحيح، لكن ليس بالمفهوم الكلاسيكي هو شريط شاعري مؤثر لأنه يركز على العلاقات الاجتماعية الجميلة.”

ذاكرة بيروت الإنسانية

فيما تؤكد المنتجة ندى طراف “أن الفيلم يعالج موضوعة خطيرة تتعلق بمحو ذاكرة بيروت الحافلة بالحياة والضوء” مشددة أنهم أرادوا من خلال فيلم “الأرز والفولاذ” “المساهمة في معركة الحفاظ على الذاكرة والهوية، وتوفير أداة إضافية لها، فإنقاذ الحجر هو إنقاذ للتاريخ، وإنقاذ التاريخ هو توفير فرصة لمستقبل أفضل.”

تضيف طراف: “بيروت هي روح وحجر ولكن اليوم يتغير الوضع، القديم يتدمر، بالمقابل هناك عمران جديد. ونحن لا نقول أن الجديد غير جيد، ولكن لا يمكن وضع برج بخمسين طابقاً في حي تقليدي! الحي سيتدمر، فتتغير ملامح المدينة ويتقلص النسيج الاجتماعي.

الفيلم عرض في أيام 22 و23 و24 و25 تشرين الأول، بعد أسبوعين من إقرار مجلس الوزراء اللبناني مشروع قانون حماية المواقع والأبنية التراثية وإحالته إلى مجلس النواب للمصادقة عليه.

“الأرز والفولاذ” يجسد أسلوب حياة بدأت تنحسر بشكل تدريجي وهوية يخشى الكثيرون أن يبتلعها زحف الأبراج والأبنية الكونكريتية المفتقرة لدفء العلاقات الإنسانية، فالبنايات التراثية لبيروت تحمل ذاكرة شعب يتوق إلى العلاقات الاجتماعية، والتواصل الحي لمشاركة اللحظات اليومية بكل ما تكتنزه من موروث جميل ثر!