فيلم “لا تنظر لأعلى”.. إدانة للشعوب التي يقودها التافهون

360

فدوى عبود /

تفتتح التفاهــــــــــة مشهد الألفيــــــّة الثالثة، ويحظى التافهون باهتمام قل نظيره. فهي ليست جزءاً من الحفلة بل قائد الأوركسترا. ومن أبرزِ الأعمال التي تطرّقت إلى التفاهة: في الرواية “حفلة التفاهة” لميلان كونديرا، وفي مجال العمل الفكري “نظام التفاهة” لآلان دونو، وفي السينما “لا تنظر لأعلى” لآدم مكاي.
الفيلم يمثل إجماعاً شبه تـــــــام، واعترافًا بسطوة التفاهة، حد اعتبارها، عند كونديرا، جوهر الطبيعة البشرية. وقبل ذلك طُرحت مسألة تسطيح الإنسان وتفريغه من الروح في رواية “استسلام” لــــــــــ راي لوريغا، ورواية “نحن” لــــــــــــــــــ يفغيني زمياتين، التي مهدت بدورها لولادة “1984” لجوروج اورويل. إلا أن هذه الأعمال لم تصل حد رفع الراية البيضاء؛ وإن حذرت من مغبة تسطيح الوعي عبر التلاعب اللغوي.
في “حفلة التفاهة” تبدو الأخيرة ماثلة في الجوهر الإنساني: “إنها معنا على الدوام، في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه،” إنها كالبذرة في الثمرة؛ لذا يَشترط أستاذ العدمــية أن نملك شجاعة التعرف إليها، وهذا ما يجسده مشهد الروايــــة الافتتاحي “آلان يتأمل السرة” والشخصيات التي سيختارها (آلان-رامون-دارديلو) ليست سوى تعبيرا عن روح عصر التفاهة. وتبدو المشاهد تمثيلاً دقيقاً له (الحشود أمام معرض شاغال، كذبـــــة داراديلو المبتذلة بشأن مرضه الخطير؛ ستالين، أربعة وعشرون طيراً من الحجل، حكاية التافه واللامع).
نظام التفاهة
ربما يعتبر البعض أن فيلم “لا تنظر لأعلى Don’t look up” كتابة وإخراج آدم مكاي. Adm mcky وبطولة ميريل ستريب وليوناردو دي كابريو ترجمة حرفية لكتاب آلان دونو “نظام التفاهة” الذي يرى التافهين مجرد عصابة، يكفي تحديد سماتها وأساليب عملها لنتقي شرها. لكن الكتاب التحليلي يخالف نصيحة كاتبه التي أسداها لـــــــــــ فكتوريا جابرين بضرورة: “العودة إلى المفاهيم القويـــــة للتفكير في الأمور” فهو، وعدا عن أنــــــــه لم يلتفت للسؤال حول جاذبيــــــة التفاهة، أو طرق عملها اللغويـــــة. فقد بدا أقرب لبيان ديني تطهيري: “يحدد صفات الشيطان حتى نعرفه إن رأيناه.”
ما يحدث لاحقاً أمر في منتهى السهولة واليسر، كأن ينفي المرء عن ذاته هذه الصفات في لعبة أقرب إلى الكلمات المتقاطعة، ثم يحصن نفسه من سفالة التفاهة والتافهين. دون أن يفكر آلان دونو لثانية فيما يمكن أن نسميه الخداع الذاتي، الذي يجعل المرء ينفي عن نفسه ما لا يحب رؤيته فيها. ولا يمكن لومه فلربما تُفسد الكتابة بالعقل السياسي العمق والوضوح الإنسانيين.
إذن نفهم أن الطبقة المسيطرة هي طبقة الأشخاص التافهين، ومن يدير اللعبة أشخاص ذوي طموحات متدنيـــــــة، وسنراهم متجسدين في الفيلم الذي بدا أشبه بـ (أفيهات) ساخرة امتدت على ما يفوق الساعتين.
فاكتشاف عالمة شابة لمذنب يقترب من الأرض، هو الحدث الأهم الذي سنتعرف من خلاله على الوجوه المتعددة للتفاهة، التي تدور عجلتها منذ لحظة وصول طاقم العلماء إلى البيت الأبيض؛ لإخبارهم بالكارثة. والعلماء يريدون إخبار الناس بالحقيقية بخلاف السياسيين، وإزاء تجاهلهم ومعاملتهم بلامبالاة يقرر العلماء تسريب الخبر عبر وسائل الإعلام.
يمتلئ الفيلم بالمجازات، بدءاً من العنوان “لا تنظر لأعلى”، وكل لقطة فيه هي مجاز، فمنذ اللحظة التي تقاضى منهم جنرال في البيت الأبيض أطعمة كتب عليها (مجانية)، نتعرف على دناءة التافهين وانحطاطهم، ثم يحتشد النص بالمجاز:
السياسيون الفاسدون والمصابون بحالة من الجهل والتفاهة، تمثلهم مرشحة الرئاسة التي أرسلت صورة أعضائها الخاصة لمرشح المحكمة العليا، وهي مجاز لمجاز آخر (ذكرتنا فضائحها ومهاتراتها بمناظرات ترامب وكلينتون وفضائحه الشخصية).
رجال الأعمال: يمثلهم بيتر أوشلر، الرئيس التنفيذي لشركة باش للموبايلات، يحدثنا عن موبايل يتفاعل مع المشاعر، وبيتر كان أشبه بآلة في حركاته ومعاملته لمن حوله، كل همه تحويل الكارثة إلى ثروة، من خلال تفتيت النيزك وإسقاطه في المحيط للاستفادة من المواد الثمينة فيه لرفع أسهم شركته.
وسائل الإعلام الكبيرة: يصورها برنامج (ذا ديلي رايت) الذي يعتمد التسطيح والنكات السريعة كسلعة أساسية لبيعها. والإعلامية أورلين، التي كانت تحاول إغواء العالم الدكتور راندل (ليو ديكابريو).
. العلماء، يمثلهم الدكتور راندل وزميلته، غير القادرين على مخاطبة الناس، فهم يرتبكون ويصرخون.
العوام أو الجمهور: لا يعرفون سوى التصفيق والهتاف لطرف ما، يحولون كل قضية كبرى إلى تهريج.
إنها شخصيات مسطحة تفتقر إلى الذكاء ولعل من المشاهد المهمة التي تعبر عن الميديا ووسائل التواصل البرنامج الإعلامي الشهير دايلي رايت، وفيه تعلن فنانة استعراض آريانا غراند أنها عادت إلى حبيبها رغم خيانته، فتتصدر هذه الحادثة الترند ونتحول إلى الحديث عن السروال الداخلي (هل يذكركم الأخير بحادثة جرت قريباً). لا شك أننا أمام ما يسميه جي ديبورا مجتمع الاستعراض، العالم المقلوب، حيث يتحول ما هو حقيقي إلى لحظة من لحظات ماهو زائف “فالاستعراض لا يستهدف سوى نفسه.”
بين اللغة والوعي
إنه مجتمع تتمثل تفاهته في لغته، التي تعتبر أهم آليات صناع التفاهة للسيطرة، فاللغة مكون أساسي وهي بيت الوجود بحسب هيدجر. لقد تساءل العلماء أيهما أسبق، اللغة أم الوعي؟
نحن نتخيل ولا شك، من خلال الصور، لكننا نفكر عن طريق اللغة، وحين تسلب منا لغتنا يسلب تفكيرنا (إن القضاء على كل قضية وتحويلها إلى سخافة يتم عبر اللغة).
ومن أمثلة ذلك عبارة مذيع “ديلي رايت” في تقديمه للعلماء: والآن (من عرض زواج إلى تجربة علمية صغيرة).
وبهذا يتحول حدث يهدد البشريــــــة، إلى تجربة علمية صغيرة من تلك التي تجري في مختبرات المدارس العامة، إن القليل من التأمل في القنوات الإعلامية سيكشف عن أن الخبر ذاته يحكى بعدة طرق ومفردات تتفق وتوجهات السياسية؛ لقد حول المذيعان اقتراب نهاية الأرض إلى فكاهة، وحول الجمهور الحدث إلى صور رائجة وتعليقات هزلية وبذيئة.
شخصيات جوفاء
كانت الشخصيات في الفيلم تفتقر إلى الذكاء ورأى البعض في ذلك ضعفاً فنياً وقصوراً مهنياً، وهذا ما جعله عاجزاً عن تحويل السخرية إلى نقد حقيقي وقصُرت شخصياته الجوفاء عن الارتقاء بالعمل الذي وقف دون العمق.
فالتفاهة ممثلة في شخصية وتفكير الرئيسة ومستشارها وكل فريق عملها، لا تقل عنها تفاهة رجل الأعمال ولا الجمهور؛ لذا لم يكن الفيلم إدانة للسياسية بقدر ما كان إدانة للشعوب. ولعل مشهد رد الجمهور في المقهى، حين يخبرهم العلماء بما يحجب عنهم، يعبر عن ذلك، فقد تحولوا إلى العنف والنهب والتخريب وإشعال الحرائق؛ وهذا إن دل على شيء فهو ذو علامة على أنهم نجحوا في تسطيح الإنسان وحرمانه من درتي تواصله: “اللغة والوعي”.
إنها ليست كوميديا ضاحكة، والوضع الإنساني يمكن اختصاره في عبارة مدير شركة باش للعالم: “تظن أنك مدفوع باعتبارات أخلاقية، لكنك تسعى إلى اللذة، واجتناب الألم، أنت مع الناضجين الآن ياراندل.”
لقد ارتفعت أسهم شركة باش وانحرف الموضوع إلى مسار هزلي، وانقسم الناس بين فريقين، أحدهما يصرخ:
انظروا إلى السماء.
والآخر: لا تنظروا إلى السماء
أما المشهد الأخير، فهو مقتطف من لوحة العشاء الأخير، وهو مجاز لعشاء المسيح مع تلامذته قبل أن ينكروه.
يخبرنا التاريخ أن كل فكرة جادة وحقيقية تحمل إمكانية أن تختزل إلى بلاهة، كما اختزلت الوجودية في موضة وتسريحة الشعر، وافتراش الحدائق والتجول فوق الأرصفة، وكما أسقط اليونان القدماء آلهة الاولمب بتحويلها إلى مجموعة من المتآمرين الذين يبرعون في حياكة الدسائس والنميمة. وكما اختُصر زوربا في زير نساء. ونيتشه في عبارة واحدة.
يخبرنا الحاضر أن التفاهة، عدا عن كونها ابتساراً وتقزيمـــاً وميلاً لتحطيم كل قيمة وقضية مصيريــــــة، فإنها تحول كل شيء إلى ترند، حتى حياة الإنسان.
تماماً كما أصبحت قصة مذنّب يقترب من الأرض، هوساً مالياً وحدثاً هزلياً، وفرصة للفوز أوتسليةً وإلهاءً لدى الجمهور؛ الذي قد يجد في تبديل ممثلة لثيابها الداخليــــــة قضيـــــةً وجودية ومصيريـــــــة.