في ذكرى رحيله السابعة والعشرين.. صوته لم يزل الأقوى

294

كاظم غيلان /

منذ أن ولد في واحدة من قرى (التنومة)، كان يحمل مفاتيح موهبته الباهرة، قبل أن يتلقفها (كوكب حمزة) ليطلقها في فضاء سبعيني زاخر بأصوات جيل لن يتكرر حقاً. وقبل أن يصقل تلك الطاقة الصوتية النادرة (جعفر الخفاف) ليمنحه مسك ختام (مَرّة ومَرّة). منذ ( ٢٧) عاماً الولد نام ..
منذ ( ٢٧) عاماً وهو لم يزل في وصلة غناء.. يطلق حنجرته في جهة الأبدية، كأنه يغني الآن.
رياض أحمد هو الذي لن يتكرر، فبقدر ما غدت مثل هكذا عبارة رتيبة ومجانية، إلا أن رياضاً بقي صاحب الاستحقاق الأبرز فيها، بدلالة إخفاق من حاولوا تقليده، لذا فهو لم يتكرر.
في جلسة حميمية ضمتنا معاً، انا وهو والصديق الشاعر (حميد قاسم)، وبينما كان الحديث عن الأيام والغناء، ونحن نحدثه عن انبهارنا بـ (مرّة ومرّة) قال: “صوتي بدأ ينضج الآن!!!” ما دفع بحميد لتحويل تلك الجلسة إلى حوار نشر في حينه على صفحات (ألف باء).
وبقدر تعلقه بذلك الموروث الجمالي الطاعن بحزن وآهات إنسان الجنوب العراقي، ممثلاً بـ (داخل حسن) الذي أحبه بـ (تطرف)، على حد وصفه، إلا أنه لم يتحجر أو يتقوقع، ولذا أتاح لموهبته حقها في اختياراته الدقيقة لمضامين مدينية: (مجرد كلام، آن الأوان، لا عالبال ولا عالخاطر، الله عالينسه حبيبه…..الخ).
ابتدأ رياض مشواره الغنائي وهو يعيش وسط شعراء أحبوه، ومثقفين توقعوا له نجاحاً مبكراً، ولذا توفر على قدر عال من ذائقة شعرية نادرة، ليختتم حياته الغنائية بـ (ألبوم موالات) كان من قصائد عديدة لمظفر النواب، أطلقه في ظروف قاهرة، ورقابة نذلة، ووشاة في وسط يضج بالمخبرين وكتبة التقارير، ولذا تجد البعض من العاملين في الإعلام الفني قد أبعدوا أقلامهم عن أية كتابة منصفة، فلربما عدّوا ذلك (خطراً)!!
كم كان يبدي تذمره من موجة قناة (الشباب) التي استحدثها نجل رئيس النظام، التي عملت وبكل ما تمتلك من عناصر التمويل والترهيب على تشويه ملامح الأصالة التي عرفت بها الأغنية العراقية، ولربما كان محظوظاً ولم يعش اللحظة هذه التي تضاعفت فيها مستويات الانحدار والتردي التي انفلتت حدودها وسط تبريكات وترويجات الدخلاء على الإعلام الفني من مرتزقة ستوديوهات التسجيل وذيول أشباه المغنين.
بعد رحيله، أعدنا اكتشاف موهبة رياض، وهذا ما حصل، ففي الأيام الأولى -بعد الرحيل طبعاً- كتب الناقد الموسيقي الراحل عادل الهاشمي في زاوية (المرفأ الموسيقي) بجريدة الجمهورية وقتذاك: “برحيل رياض أحمد قفل الموال العراقي.” وتوالت كتابات عديدة هنا وهناك، لكنها اتفقت جميعاً على قوة صوته التي لن يصلها أي من مطربي العراق، هذا طبعاً رأي للباحث الأكاديمي والموسيقى د. حبيب ظاهر العباس.
في المواهب الفذة ثمة العوامل التي تشبه مصادر المياه، كأن تكون ساقية ماء عذراء، صافية مستمرة، ينبوعاً متدفقاً، شمساً دافئة، كلها تتدخل في نموها وعافيتها، وكل تلك المصادر أحاطت برياض وأحاط بها: بيئة نادرة، وثقافة تقدمية منحازة إلى الإنسان وقهره، ليل يصنع الأساطير وملاحم الخلود، كليل ألف ليلة وليلة، تجارب تلهم البدايات كل ما يحفز في تقدمها بلا تردد ولا التفات، ومنافسات خالية من الأحقاد تمتلك شرف الخصومة.
كلما حاولت الكتابة عن رياض، استنجدت بمفكرتيه المودعتين في مكتبتي لأعيد قراءة حياته عبر وقائعها من جديد، مع خشيتي على إعارتها لأحد، بعد أن اقدم البعض على تزوير وتحوير تلك الوقائع.