في ذكرى ميلاده الثمانين.. الفنان فؤاد الطائي: الفن زادي الروحي في سني الغربة

313

حاوره: محمد الكحط/
وأنا في طريقي إلى “شرفة فؤاد الطائي” كنت أردد قصيدة سعدي يوسف هذه وأتساءل مع نفسي، أية شرفة تلك التي كتب عنها ابن يوسف هذه القصيدة، هل هي في العراق أم هنا في المنفى السويدي الثلجي، فهو يقول ((…حتى وإن هطل الثلج…))، فها هو الثلج على طول الطريق إليه، وتلك هي البحيرة، وها هو “الشمال السويدي”، وها هي لوحات ومنحوتات فؤاد تتفتح “أنجمأ وأيائل”، كنت أخشى لقاء هذا الفنان المنزوي بعيداً عن الأضواء، له عالمه الخاص، بل عوالمه الخاصة، كنت أظن أنه سيكون صعب المراس، فهو المتمرد على السياسة والسياسيين، كلهم أصدقاؤه، لكنه يعشق فنه الذي أصبح زاده الروحي دون أي منافس.
شقة وفيها شرفة وقفت عندها، كل ما فيها فن في فن، بل أرشيف للفن، وأرشيف للسياسة والمجتمع، محطات كثيرة وأثيرة بكل ما فيها، من حلاوة ووجع السنين، لكن سني الغربة كانت الأطول والأكثر إيلاما.
كان الحديث معه طويلا، لكنني سأستل منه ما أراه مناسباً.
تفتحت أساريره، وتوقدت ذاكرته، وإذا به يكشف عن أسرار جديدة لم يعرف بها الا القليلون.
مشاغل الحياة والسياسة
يقول: بدأ حسي السياسي مبكرا، منذ المرحلة الابتدائية في المدرسة، حيث حب الوطن واحترام العلم والأناشيد الوطنية، وحتى صورة الملك كونه يمثل رمزا للوطن، لكن في مرحلة الدراسة المتوسطة تطور الوعي السياسي، بفعل الأحداث السياسية العربية والعالمية، ففي العراق كانت الأحداث سريعة، حيث بدأ اهتمامي بالصحف والمطالعة وقراءة الكراريس والكتب السياسية المبسطة، ورغم ان والدنا كان إقطاعيا فكانت مواضيع مثل الملكيين والرجعيين وعامة الناس تثير اهتمامي، كما بدأ اهتمامي بالشعر والقصة والرواية واطلعت على الأدب العراقي والعربي والعالمي قرأت أنيس منصور وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ونزار قباني ونهرو وفيكتور هيكو وهمنغواي والبير كامي وسيمون دي بوفوار وغيرهم، قرأت الصحف كالزمان والأخبار والبلاد، ومجلات كالمصور وآخر ساعة وروز اليوسف وصباح الخير.
وهنا يستذكر موقفا طريفا له مع أحد أصدقائه الذي كان أبوه صاحب مكتبة، فجرى الاتفاق أن يأخذوا كتبا منها ويقرأونها بدون أن يفتحوا الورق المتلاصق كي تبقى وتبدو كأنها جديدة ولم تستعمل، مما يوفر لهم المال، كون الكتب كانت مكلفة آنذاك، فكان عليه أن يقرأ بصعوبة الكتب ولكنه تحمل ذلك الألم بسبب شغفه بالمعرفة.
صورة الزعيم
بدأ اهتماماته الفنية بالبروز، ورسم صورة للزعيم عبد الكريم قاسم بعد تعرضه للاغتيال وسلامته، نشرت في جريدة البلاد وأرسلها إلى الزعيم، وكان جواب الزعيم له هو إهداءه صورته وعليها توقيعه الخاص، (الرسم وصورة الزعيم مرفقة)، نشط جماهيريا وفنيا وأخذ يرسم في الصحافة العراقية، وأخذت قراءاته تتسع فشملت أعلام الأدب الروسي دستوفسكي، تشيخوف، مكسيم غوركي، تولستوي، غوغول…، يتذكر مساهماته في النشاطات الجماهيرية منها المسيرة المليونية بعيد العمال العالمي وهي أول وآخر مرة خرجت فيها الجماهير بتلك الصورة والعنفوان.
بعد الانقلاب الفاشي 1963م، تعرض للاعتقال ثلاث مرات، وتعرض للأذى الشديد، وبدأ منذ ذلك الحين تشاؤمه من العمل السياسي. ويستذكر كيف أضطر لأخفاء كتبه ووثائقه.
فبقيت أعماله تتحدث عن القيم العليا، وفي أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، كان له حضور من نوع آخر تميز بالنشاط الفني والاجتماعي المميز وكان ضمن الهيئة الإدارية في جمعية الفنانين العراقيين، وظل متمردا على التقييد فعنده الالتزام هو تقييد له، وعند إعلان الجبهة الوطنية عام 1973 وقف ضدها وعانى الكثير من ذلك.
معهد السينما العالي
في سنة 1978، وعند بدء الحملة الشوفينية ضد القوى الوطنية والتقدمية، التقى مع القيادي مهدي عبد الكريم والذي طلب منه مغادرة العراق خلال أيام، كونه وجها معروفا وهنالك حملة نشطة لتصفية النشطاء، فغادر إلى فرنسا ومن هناك إلى موسكو وبعد فترة التحق بمعهد السينما العالي في موسكو من سنة 1980 حتى 1987، ليكمل دراسة الماجستير والدكتوراه في موضوعة “البناء التشكيلي في الفلم الروائي” وكان يمارس خلال تلك السنوات نشاطه الفني والاجتماعي المتنوع بهمة وكفاءة وبحرفية أكبر، فبعد معارضه الشخصية والمشتركة في العراق، أقام في موسكو عدة معارض فنية وشهادات تقديرية لنشاطه في مجال الرسم والتصميم.
صمم بوسترات احتفالات المناسبات الوطنية العديدة بأحجام كبيرة (م7*5م)، وحتى الجهات السوفيتية كانت تنتظر ماذا سيعمل الطائي من بوستر جديد، بعدما شاهدوا أعماله.
بعد التخرج، غادر إلى السويد، وهناك أقام عدة معارض ومازال يعمل بجد ونشاط، لم يترك أسلوبا أو عملا لم يجربه، فهو يحمل قطعة الخشب المرمية في الشارع ليعمل منها عملا نحتيا، أو يجمع الأغلفة الداخلية لعلب السكائر أو أغلفة الحلويات اللماعة والملونة، ليعمل منها لوحاته، ومن الأكلات الشعبية يعمل لوحات فوتوغرافية خلابة، مستعينا بإرهاصات الطفولة ومجسدا لها.
وهكذا هو اليوم يقدم فنا جديدا وإبداعا جماليا مدفوعا برغبة حقيقية نابعة من دواخله لإحياء تلك الطاقة الكامنة في روحه وتعبيرا عن روح التحدي الذي في داخله.