قــحطـان العطار لـ“الشبكة”:سأبقى صامتاً في حالة حِداد مادامت هذه حال العراق

1٬399

 فادي قاسم/

حتى اكثر الناس إعجابا والتصاقا بهذه الموهبة الفنية الفريدة، التي اعتزلت الغناء في قمة عطش عشاقها لصوتها السومري، فأن الكثير من شخصيته وحتى مسيرته الطويلة من المعاناة والاغتراب، ظلت غامضة ومبهمة عليهم ولم يسبق للفنان ان كشف اغوارها.

“الشبكة “وفي حوار هو الأول من نوعه، مع نجم الغناء العراقي قحطان العطار، الذي رفض مرارا الادلاء بأي حديث صحفي لوسيلة اعلام عراقية أو عربية، تكشف لقرائها جوانب مهمة في حياة هذا المطرب الذي غدا صوتا للمحبين والفقراء وللباحثين عن الحرية ايضا.

هكذا بدأت الحكاية

منذ سنوات طويلة وأنا أتمنى إجراء حوار مع الفنان الكبير المغترب والمعتزل قحطان العطار، لأضع النقاط على حروف كثيرة لاتزال مبهمة المعنى في سطور السيرة الذاتية لهذا الفنان الجميل.. ولم اجد سبيلاً الى ذلك.. حتى أخبرني بعض الأصدقاء بأنه يراسل أو يتابع إحدى الصفحات التي تحمل إسمه وهي (قحطان العطار.. صوت الحب).. فتقدمت لصداقة الصفحة وأعلنت في منشوري الأول عن رغبتي في إجراء مقابلة معه لمجلة الشبكة العراقية.. وكانت المفاجأة.. إتصال من الفنان الكبير في الثالثة فجراً.. وصوته الحميم المتهدج يقول بكل حياء:

– أنا آسف.. الوقت متأخر في العراق.. تحياتي لك.. وللإعلامي والشاعر الرائع جمعة الحلفي الذي أحمل له مودة خاصة فقد كنت ألتقيه عندما كنا ندرس انا وصديقي وزميل دراستي رحيم العراقي في الحديقة المجاورة لمطبعة جريدة طريق الشعب، حيث كان يعمل، بداية السبعينات وبعدها بعشرات السنين غنيت من شعر الحلفي قصيدته المعروفة:

أحزر جم جرح بالروح!

إذن على الطرف الآخر من الأثير.. يتحدث قحطان العطار.. الطفل السومري الذي ولد عام 1950 في قضاء علي الغربي بميسان ولم يجد أماً تهدهده و(تلولي) له.. فقد ماتت بعد ولادته.. وتبعها والده .. فعرف السكون والإغفاءة على صوت شقيقته الكبرى (نجية) الملاية ذات الصوت الرخيم الذي جاهد من أجل تقليده بما يحمله من شجن وأسى منذ طفولته المبكرة وحتى رحيلها عن الدنيا لتكفله شقيقته الثانية المرحومة (مهدية) ويجد في الغناء، حينها، ما يتسع لعواطفه ويعوّض له بعض حاجته الى الحنان..

قال قحطان: عندما إنتقلت العائلة الى بغداد إنتظمت بمدرسة السعدون الإبتدائية وعملت في فرن بمنطقة البتاوين.. وبسبب ساعات العمل الطويلة والمرهقة لم أكمل دراستي.. وداهمتني الخدمة العسكرية لتسرق من عمري أولى السنوات المهدورة.. وبعد التسريح عملت منشدا في مصلحة السينما والمسرح تحت قيادة وتوجيه الفنان الكبير الموسيقار جعفر حسن.. لكنهم سرعان ما فصلوا هذا الأستاذ المعطاء.. وحرمونا من نبعه الصافي..

متى كانت البداية الحقيقية؟.

– في عام1971 قدمني الملحن الكبير حميد البصري بأغنية “جناح الفرح” للشاعر كاظم إسماعيل الكاطع، ولم تصوّر للتلفزيون.. لكنها شكّلت حضوراً طيباً.. وكانت خطوة للتوفيق بين البدايات المتواضعة والطموح الكبير.. ثم غنيت للملحن الفقيد كمال السيد “سلمت وإنت ما رديت السلام” وللملحن الراحل طالب القره غولي أغنية “يا ضوه ولاياتنا” و “بالكيف” وعدت في عام 1972الى الدراسة في ثانوية المعهد العلمي المسائية واكملت دراستي المتوسطة.. ثم درست في قسم الموسيقى بمعهد الفنون الجميل.. وقدمت في تلك الفترة المزدحمة أغنية “يكَولون غني بفرح” و”لو غيمت دنياي” من ألحان الفنان الكبير محسن فرحان..

فرسان الأغنية

*  كيف كانت الأغنية العراقية وكيف أصبحت اليوم.؟.

– خرجت الأغنية العراقية الحديثة من بين أصابع الموسيقار صالح الكويتي، التي داعبت أوتارها واستنبطت منها اجمل واروع الأنغام.. وصارت جزءا من حياة وتراث الشعب منذ ثلاثينات واربعينات القرن المنصرم، وتوالت من بعده أسماء المبدعين الرواد: القبنجي ووديع خونده وعباس جميل ورضا علي وناظم نعيم وعلاء كامل واحمد الخليل وفاروق هلال وغيرهم، وواكبتها اغنية الريف المحملة بأوجاع الفلاحين ورعاة الأغنام من الرجال والنساء وكانت اغاني داخل حسن وحضيري أبو عزيز وناصر حكيم ومسعوده العمارتلي، خير معبر عن مشاعر وهموم الناس وهذا ما كتب لها الإنتشار والبقاء المتوازي مع ألحان نجوم الأغنية السبعينية التي حملت هذه المضامين والصفات بملامح وإيقاعات عصرية على يد كبار ملحنيها: طالب القره غولي ومحسن فرحان وكوكب حمزة وحميد البصري ومفيد الناصح ومحمد جواد اموري وكمال السيد ومجيد العلي وطارق الشبلي وطالب غالي وجعفر الخفاف وغيرهم.. لكن الأغنية بدات تتعثر في ثمانينات القرن الماضي وإن لم تخل من تجليات بعض المبدعين الكبار.. وما الأغنية الراهنة أو أغلب الأغاني التي نسمعها اليوم الا جزءا من الظواهر السلبية التي طفحت على سطح الحياة الاجتماعية والسياسية ولكننا لا ننكر ظهور فنانين رائعين – على قـِلتهم – هم امتداد لفرسان الأغنية العراقية الصميمة فضلا عن الفرقة السيمفونية العراقية التي تجاهد من أجل البقاء..

* ما سبب رفضك طلبات لقاء عشرات الإعلاميين من صحف ومجلات وقنوات عربية شهيرة والتي عرض عليك بعضها أجورا مغرية؟.

– أرى أن اللقاء مع الفنان أو الأديب يجب ان يحمل جديدا أو يتناول مشروعا فنيا وبما اني متوقف عن الغناء فأنا لا أرى معنى أو جدوى لأي لقاء وسيكون مجرد حديث إنشائي جديد لموضوع قديم مكرر سبق وأن تحدثنا عنه عشرات المرات.

* لكن هناك صفحات للتواصل الإجتماعي تتحدث بإسمك؟.

– إنا أقـّدر محبة القائمين على هذه الصفحات لي.. لكني أتألم عندما يتحدثون بإسمي.. أو ينشرون صوراً قديمة ويدعون بأني على تواصل معهم.. حتى لو إعتبروا ذلك خدمة لي.. لأن المصداقية هي أهم شروط التواصل.. للفنان ولكل إنسان.. فلماذا ينتحلون صفتي؟.. أليس في هذا إساءة لأنفسهم؟. على كل إنسان ان يجهر بإسمه ويحترم ذاته ويعتز بشخصيته وان لا يمحوها ويذيبها في شخصية أخرى.. لذلك طلبت من جميع المحبين أن يلتقوا بصفحة واحدة لكي يتسنى لي متابعتها.. وهي صفحة (قحطان العطار.. صوت الحب.). وانا على تواصل مع أعضائها.. وتحدثت هاتفياً مع عشرات منهم..

نداء كاذب

نشر البعض نداء باسمك تناشد فيه وزارة الثقافة لعلاجك .. فهل هذا صحيح؟.

– للأسف.. قام البعض بنشر هذا الخبر الكاذب في الفيسبوك وبأسماء مستعارة لجمع أموال بحجة ان قحطان مريض ووزارة الثقافة لاتستجيب لندائه وتعالجه على نفقتها.. وهو خبر عارِ عن الصحة.. والناس يعرفون حقيقتي جيداً.. انا يا عزيزي لم أطلب شيئاً من أقرب الناس إليّ وفي أسوأ الظروف، برغم إلحاحهم في عرض المساعدة الأخوية.. وعندما طلب موفد رئيس الوزراء السابق اللقاء بي للإطلاع على إحتياجاتي .. إعتذرت بأدبٍ عن اللقاء به واخبرته بأني بخير ولا أحتاج مساعدة من أحد أو من جهة رسمية أو غير رسمية وأن بعض العراقيين داخل العراق أحق بالمساعدة مني.

إذن ما حقيقة المرض؟.

– سَبَقَ أن شرَحتُ ذلك مراراً وتكراراً وعبر وسائل كثيرة لأصدقائي بأني اجريت في الدَانمارك العَمَليَّه الثالِثة لتغيير المَفصل في الحَوض على الجِهة اليُمنى، وأخضَع الآن لِبرنامَج صِحّي يسمى (الفيزوتِرپي) في قسم خاص داخل المُستَشفى، لتَقويَة العظام والمفاصَل لِأنَّ مُشكِلَتي كانت (الهَشاشَه في العظام) وانا بِخَير الآن واذهب للتَمارين الرياضيَّة على درّاجَتي الهوائيّة، وكنت أتمنى ألا يعرف أحَد بذلك بتاتاً لأنَّهُا أولاً حالة بسيطة ولا تكلف مصاريف ولا تحتاج لجهود سوى تمارين رياضية بسيطة، وأقولها باللهجَة العِراقيّة (لَيش أزعِج أحبابنَه اللي فيهُم يكفّيهُم) ولَقد كَتَبَ لي بعض الأصدقاء في حينها يسألون عن صحَّتي ولا أعلَم كَيفَ عرِفوا بالخبر وَأنا الان مُجبَرَ أن أشرح لهم الأمر مِثلَما نَقلتُه لَهُم، خاصةً بعد أن ظهرت منشورات هنا وهناك تبالغ في طرح موضوع مرضي وتجعل مني شخصاً مُحباً للشكوى وأبحث عمن يصرف عليَّ وعلى علاجي وهذا ما جرحني في الصميم.. كونوا مطمئنين وعلى ثقةٍ فلا شَيء يدعو للقَلَق وأنا أواصل جلَساتُي الصّحيَّة الطِبيّة مَعَ طبيب العمَليات لِأنَّ المعدَن الذي وضعوه في جسمِي أي لِمفاصِل الحَوض يُسبِّب امراضاً خبيثة فيما لو لم يَتَّفِق مَعَ بعض أنواع الدم، ولكنه تجاوب مع دمي لِذلِك فانا وغيري ممن وضعوا لَهُم نفس المعدَن نخضع لِفُحوصات عادية مُستَمرَّة أحياناً تَصِل إلى ثلاث مرّات في الشهر الواحِد.. ونمارس الرياضة.. يعني مجرد نقاهة.

* متى تعود الى العراق؟.. متى تعود الى الغناء؟.

– أكرر ماقلته سابقاً.. أنا تلوت شهادتي في محكمة الحياة.. وأدنت الظلم والقهر والخديعة والقسوة.. وغادرت المحكمة.. ولا أريد العودة لتغيير إفادتي.. انا عشت.. ورأيت كل شيء.. ولا أحتاج الى المزيد .. فالبعد جسدياً هو أجدى من القُرُب الميت نفسياً.. وكما كانت غربتي هي طريقتي بالإحتفاظ بالأهل والوطن الذين أحبهم.. كما أريدهم وأتخيلهم.. فإن عزلتي هي طريقتي ووسيلتي المريحة للإحتفاظ بالآخرين من دون ان أتدخل بتفاصيل حياتهم الشخصية.. وسأجد السلوى والبديل بداخله.. بقلبي وبذكرياتي.. بعد ما ندر وجودها حولي..

جروحي عميقة

* لاتزال هناك امور لم تبح بها لجمهورك الكبير.. فماذا نقول لهم؟.

– قل لهم .. قحطان ما عاش لنفسهِ.. ولا إهتم لأمله أو يأسِه.. فأحلامه جفت في بلاده القاحلة.. وغابت مع أمه الراحلة..
وأسلم نفسه للبلاد الغريبة.. لكي لا يتعذب في بلاده الحبيبة.

ما ذلَّ ولا هان لأيٍ كان.. وجروحه العميقة.. من خناجر صديقة.. عاش الحرمان والظلم والفقر.. وماعاش نشوة الحب المستقر.. لكنه وجد في محبة الناس ما يغمره باجمل إحساس..

قل لهم: إن قحطان ينتمي للمحبة والسلام والأمان.. وللناس الطيبين في كل مكان.. للكون الذي جعله من حزانى البشر وبكاء المطر.. وإشراقة الشمس وإطلالة القمر وأنين الريح.. ونسيم الهواء.. يهبُ متى يشاء.. ويصمت متى يشاء.. ففي صمت الروح ما هو أبلغ من الغناء..

قل لهم: قحطان زرع ولم ينتظر الحصاد وما تاجر يوما بصوته في مزاد.. وسيبقى صامتاً وفي حالة حِداد.. مادامت هذه حال البلاد!.