لم تبق منه سوى الذكريات المسرح الشعبي.. أرسى قواعد (الفرجة) واقترب من الجمهور

143

نورا خالد
يُعد المسرح الشعبي واحداً من الوسائل المهمة في بث روح المتعة والتعريف بالقيم والعادات والتقاليد، إذ إنه غالباً ما يعبّر عن الهوية الحقيقية للمسرح، كونه في تماس مباشر مع الناس في أحلامهم وآلامهم، إلا انه لم يعد فناً له جاذبيته بالنسبة للجمهور العراقي، وذلك لوجود أسباب كثيرة ومتنوعة، حسب مختصين في الفن.
اندثار الفرق الأهلية
الكاتب المسرحي علي عبد النبي الزيدي يرى أن “الحديث عن المسرح الشعبي تحول إلى مجموعة من الذكريات الجميلة ليس إلا، بعد أن جرت -بقصد واضح- عمليات هدم واندثار الفرق الأهلية التي قادت المسرح العراقي لعقود طوال من الزمن قبل العام 1968، فتأسست على أنقاضها الفرقة القومية فيما بعد، وصار الفن في الغالب منه (حكومياً)، لا يمكن أن يكون خارج أروقة السلطة آنذاك، وهذه واحدة من الإشكاليات الكبيرة التي جعلت هذه الفرق تتوقف، كما أن هجرة الكثير من الأسماء خارج العراق جعلها تتلاشى إلى الأبد، ومعها تلاشى الجمهور الواسع لتلك الفرق، ومنها فرقة المسرح الفني الحديث، التي كانت تقدم عروضاً مسرحية شعبية تقترب من نبض الشارع وأحداثه السياسية والاجتماعية على حد سواء، وبذلك فقد المسرح جمهوره الكبير الذي كان يتابع تلك الفرقة بشكل ندعوه كـ (ظاهرة)، ومن كل محافظات العراق.”
التحول الثاني
تابع (الزيدي): “عندما نشبت الحرب في العام 1980 بدأ التحوّل الثاني، إذ اتجه غالبية المسرحيين العراقيين إلى مسرح يدعى بـ (مسرح التعبئة)، الذي أخذ من عمر المسرح عقداً كاملاً ضائعاً، لم يترك أي أثر، إلا بحدود نادرة جداً، وهو أيضاً لا يخرج عن كونه مسرحاً أرادته السلطة لرفع معنويات الناس والجنود بطريقة وأخرى. ومع بدء عقد التسعينيات ومشروع العروض التجريبية، التي في معظمها تغرق بالعتمة والتعقيد، فقدنا جمهوراً كبيراً لم تعد تستهويه هذه الأنماط من المسرحيات، وبدأت تظهر في الأفق موجة كبيرة ضد المسرح الشعبي بمفهومه القريب من تطلعات وأحلام الناس، والتعالي عليه، باتجاه مسرح وضع الحواجز العالية في طريق الجمهور.
وبذلك غادر كثير من المخرجين العراقيين المسرح الشعبي مع هجرة قاسم محمد إلى الإمارات مثلاً، وتوقف عزيز خيون عن مشروعه المهم كمخرج، وسواهم من المخرجين، ومع مرور الزمن وجدنا أنفسنا تحت طائلة خسارات كبيرة للجمهور العراقي، بدعوى التجريب في المسرح وسواه من هذه المفردات، وتحوّل كل شيء باتجاه عروض مسرحية لا يحضرها سوى النخبة.”
ويرى (الزيدي) الحل في “عودة الفرق الأهلية بقانون جديد شامل، متناسب مع الحياة الجديدة اليوم، وإعطائها (منحاً) مالية سنوية من قبل الدولة، وتشجيعها على تقديم مختلف العروض المسرحية التي تقترب من الناس، وبذلك يمكن خلق أجواء ومناخ مسرحي على قدر كبير من الأهمية.”
إجهاض المشاريع الفنية
الدكتورة عواطف نعيم أشارت إلى أن “المسرح الشعبي لم ينحسر، بل إن هناك من أجهض المشاريع الشعبية، وأقصى مخرجي هذه المسرحيات، متعللاً بعدم توفر السيولة المادية التي تنجز أعمالاً شعبية معافاة، فهناك من أسهم بقتل المسرح، ولاسيما المسرح الشعبي، حين تغافلوا عنه وتجاهلوا دعمه.”
مؤكدة أن “المتلقين في مختلف توجهاتهم كانوا ميالين إلى العروض المسرحية الشعبية، لما تناقشه من أفكار ورؤى قريبة من واقعهم، ومعرفة واقع آخر طالما قرأوا عنه أو سمعوا به، لكن هذا الجمهور الواسع قد تلاشى بتوقف العروض الشعبية.”
الفنانون هم السبب
نقيب الفنانين، المدير العام لدائرة السينما والمسرح، الدكتور جبار جودي، رمى باللوم على الفنانين، بكونهم أحد أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع المسرح الشعبي، إذ إنهم ظلوا على مواضيعهم الجاهزة في غالبية مسرحياتهم، ولم يحدث أي تجديد، سواء في المواضيع أو طريقة العرض، لذلك اعتكف الجمهور عن حضور مثل هذه العروض.”
وتابع: “كما لا يمكن أن نغفل دور السوشيل ميديا والانتشار الواسع للمواد الفنية على الموبايل، إضافة إلى الجانب الاقتصادي، إذ لم تعد هناك جدوى اقتصادية للمنتج، ولاسيما بعد تخفيض سعر بطاقة الدخول.” مضيفاً: “نحن نحتاج إلى آليات عمل وطرق تفكير جديدة نستطيع من خلالها إعادة العائلة العراقية الى المسرح.”
ويعزو الدكتور حسين علي هارف التراجع في العروض الشعبية إلى مجموعة من العوامل، أهمها، كما يقول: “العامل الإنتاجي، فالمسرحية الشعبية التي اعتدنا عليها أن تكون كوميدية، كما كانت في الثمانينيات والتسعينيات، مكلفة إنتاجياً، لأن من اشتراطاتها أن تضم نجوماً، ولاسيما نجوم الكوميديا، الذين غالباً ما تكون أجورهم مرتفعة. فضلاً عن عناصر فنية أخرى، وأحياناً يتطلب هذا ميزانية عالية للمسرح الشعبي.”
يكمل هارف: “سابقاً كانت (الفرقة القومية)، التي أصبحت فيما بعد (الوطنية)، هي من تنتج مثل هذه الأعمال وتطرحها للتسويق، وكان هناك إقبال جماهيري نسبي، فأحياناً تنجح المسرحية وتعرض لمدة سنة، وأحياناً أشهراً. أما في الآونة الأخيرة فما عادت دائرة السينما والمسرح والفرقة الوطنية للتمثيل تجازف بإنتاج مثل هذه المسرحيات، ولاسيما بعد انحسار الإقبال عليها.”
موضحاً أن “هناك جمهوراً صنعه المسرح الشعبي في الثمانينيات من خلال المسرحيات التي قدمت في تلك الفترة، مثل (الخيط والعصفور ، صايرة ودايرة، بيت وخمس بيبان، وأطراف المدينة)، وكثير من المسرحيات، لكن بعد العام 2003 وتداعيات مرحلة تغيير النظام الدكتاتوري، دفعت بعض زملائنا إلى تكوين عروض لا تليق بالمسرح ورسالة المسرح، لذلك بدأت العائلة تبتعد عن العروض، لأنها اتخذت منحىً تجارياً، وأصبح هناك انخفاض واضح في المستوى الفني، كما دخلت عناصر طارئة لا تمت إلى المسرح بصلة، لذلك شهدنا عروضاً لا يمكن أن نسميها عروضاً مسرحية، بسبب ما وصلت إليه من درجة إسفاف عالية جداً، وصلت إلى البذاءة والكلام الذي يسيء إلى الذائقة ويخدش حياء العائلة العراقية ويخرج عن القيم التربوية، كما لا يمكن أن ننسى انتشار وسائط الميديا المتعددة، التي قللت من زخم الجمهور المسرحي، ولاسيما العائلة.”